في تصريح للسفير الإيراني في لبنان لوكالة فارس الإيرانية أشار نصاً إلى أن: ( رئيس جمهوريتنا قد حطم الرقم القياسي لعبدالناصر)، معتبراً أن الاستقبال الرسمي بداية من رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء وصولاً للاستقبال الشعبي العظيم في جنوب لبنان، يتجاوز ما حققه (الزعيم الراحل) جمال عبد الناصر من التفاف شعبي ورسمي في مختلف البلاد العربية.
إن ذلك الاستدعاء الرمزي لشخصية جمال عبد الناصر ومقارنتها بأحمدي نجاد يحمل في عمقه العديد من الدلالات التي قد تتجاوز مجرد الرغبة الإيرانية في بسط النفوذ الشيعي، أو التأكيد على التواجد الإيراني القوي في منطقة الصراع الاستراتيجي العربي الإسرائيلي، لتحقيق أهداف داخلية وخارجية للنظام الإيراني الحالي.بل أن نجاد قد قرر تجاوز تلك الخطوط لينافس على مقعد الزعيم القومي الذي أصبح خالياً بعد انهيار المشروع المصري الناصري.فسباق تحطيم الأرقام القياسية للزعامة أصبح هو المشروع الإيراني الجديد، بشكل معلن.وذلك على اختلاف التوجهات والأيدلوجيات التي ينبع منها كلا الطرفين.
فنجاد يدرك جيداً فراغ الساحة العربية من رموز وطنية أو قومية أو حتى دينية تمكن الشعوب العربية من تحقيق أي تقدم على المستوى السياسي والاجتماعي.وبما أننا شعوب تهوى صناعة البطل الفرد، فتصنع إلهاً لتبعده متانسية أنها هي من خلقته، أصبح نجاد فجأة المخلص الجديد.الذي تحلق فوقه الطائرات الإسرائيلية في لبنان ولا يطرف له جفن وهو في قمة حالات الوجد البطولي أمام الجموع الغفيرة التي في انتظاره، رافعة الأعلام الإيرانية بدلاً من العلم اللبناني، وكأن نجاد كان يخطب في طهران.
المشروع التوسعي الإيراني أصبح يمسك بأطراف اللعبة بشكل جيد، المشكلة ليست تبعية حزب الله الكاملة للنظام الإيراني، أو إلحاح حسن نصر أنه الممثل للولي الفقيه في لبنان، فالجموع الشعبية ليست بالضرورة أن تكون تابعة تبعية مباشرة لحزب الله، ولكنها أصبحت مؤمنة بالخلاص الفردي على يد البطل الإيراني الجديد، والذي يعتمد مشروعه بشكل رئيسي على عنصريين رئيسيين:
أولهما: تلك الدعاوي الدينية الشيعية عن المهدي المنتظر والتي أجاد أحمدي نجاد استخدامها منذ اعتلائه قمة السلطة التنفيذية في إيران.فقد أعلن في لبنان، أن المهدي المنتظر هو المشروع التحرري الأخير الذي يُعد له هو العالم من جديد.بل أن تحرير القدس لن يتم إلى بواسطة المهدي. تلك الفكرة لها حضورها الطاغي على كل الأوساط الشعبية بمختلف توجهاتها الدينية.خاصة ونحن في حالة ترقب لحرب بالوكالة بين إسرائيل والجنوب اللبناني.
ثانياً: الأداء الإعلامي القوي الذي يخاطب به الرئيس الإيراني الغرب وأمريكا على وجه الخصوص، خاصة بعد توقيع العقوبات الدولية التي تعلن إيران دائماً أنها غير متأثرة بها بشكل قوي على المستوى الاقتصادي على الأقل.رغم تحذيرات (هاشمي رفسنجاني) وغيره من الداخل الإيراني بعدم الاستخفاف بتلك العقوبات.ذلك الخطاب الذي ينتجه نجاد بشكل دائم يجد في الذهنية العربية ما يقابله من خطابات إذعان أو قبول بالسيطرة الأمريكية على الواقع العربي.رغم ذلك الإعلان الإيراني السافر بالتدخل في الشأن الداخلي اللبناني خاصة والعربي بشكل عام.فالعقل العربي قرر أن يستبدل الهيمنة الأمريكية بالسيطرة والنفوذ الإيراني.
وعلى مستوى الداخل الإيراني، نجد أن زيارة نجاد التاريخية للبنان ـ كما يصفونها ـ قد حققت الأهداف المنشودة بشكل مباشر، فكما يسعى أحمدي نجاد لاستغلال الزعامة الناصرية، يحاول داخلياً أن يحقق له تواجده الشعبي والديني، فهناك العديد من الأصوات الداخلية في إيران، تقارن بين زيارته للبنان، وعودة آية الله الخوميني من فرنسا إلى طهران بعد نجاح الثورة الإيرانية عام 1979، أي أن الدخول النجادي إن جاز التعبير، يماثل في استقباله الحافل رمزية الخوميني الثورية التي يستغلها نجاد بشكل جيد بوصفه المجدد للفكر الثوري الأصيل في إيران.
بل أن (آية الله نوري همداني ) أحد آيات الله الكبار ذوي التواجد الملحوظ على الساحة الدينية الإيرانية وأحد أبرز المراجع الدينية الكبار، يلعن أن استقبال الشعب اللبناني للرئيس أحمدي نجاد، يؤكد على النفوذ الإيراني العظيم في الساحة الدولية.مما يعطي انطباعاً داخلياً أن إيران في ظل رئاسة نجاد استطاعت أن تحقق ما لم يتحقق قبل ذلك، بحيث أصبح لها دورها الدولي والإقليمي، ليتم التغافل عن أي انحرافات أو فشل على الساحة الداخلية.وهذا ينقلنا مباشرة للفكرة الأخيرة.
إن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد قد استطاع أن يحقق العديد من المكاسب على الساحة الداخلية يتلك الزيارة التي توصف بالتاريخية، وتم ذلك في القضايا التالية:
أولاً: اشغال الشعب الإيراني عن أزماته الاقتصادية الداخلية، خاصة التضخم الاقتصادي الذي يعاني منه المجتمع في الداخل، وارتفاع أسعار الطاقة بمختلف أنواعها لأربعة أضعاف قيمتها التي كان يتم التعامل بها، مما ضخم الإحساس الشعبي بحالة الضغط الاقتصادي التي تعاني منها الحكومة، خاصة وأن هناك سجال دائر بين الحكومة ومجلس الشورى حول الموازنة الجديدة.أي أن هناك ضغوطات اقتصادية قد تعاني منها حكومة نجاد.
ثانياً: منذ الصراع على قضية تزوير الانتخابات بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، والنظام الإيراني يفتقد إلى قضية قومية يبرر بها الحرب على الإصلاح والمحاكمات التي تتم للأن، بالإضافة إلى غلق العديد من الصحف والمواقع التي تمت للإصلاحين بصلة.مما أنتج حالة فصام داخلي على المستوى السياسي، فمع كبت أي تيار معارض، والضغوط العالمية والاقتصادية على الشعب الإيراني، احتاج نجاد أن يطور المشروع القومي ليتجاوز به المشروع النووي، إلى دعوة قومية عربية إسلامية تقودها إيران.تمنح حكومة نجاد مشروعيته السياسية الجديدة أمام الساحة الداخلية.مما أتاح للعديد من الأصوات المحافظة على رأسهم (آية الله جنتي) رئيس مجلس صيانة الدستور، وإمام الجمعة في طهران، أن يلمح إلى رغبته في اعتقال رؤوس المعارضة و يقصد بهم (مير حسين موسوي، ومهدي كروبي)، وذلك في خطبة يوم الجمعة الماضية، أي في نفس توقيت الزيارة التاريخية.مستغلاً فكرة أنهما أصبحا رموز بلا أتباع أو أبواق دعاية تكفل لهم تواجدهم السياسي داخل الساحة الإيرانية.
ثالثاً: جائت أزمة المفاعل النووي في بوشهر، والنجاح في تأجيل عمله بواسطة الحرب الإلكترونية، وكذلك إعلان إيران الأخير أنها تمكنت من اعتقال شبكة جاسوسية كانت تستهدف المشروع النووي.إلى الحد من مشروعية المشروع ذاته، خاصة مع التضخيم الإعلامي الغربي والأمريكي تحديداً لحادثة بوشهر، مع الوضع في الاعتبار أن هذا هو المفاعل النووي الوحيد الذي كان صالحاً للعمل من خمسة مفاعلات أخرى تم الإعلان الإيراني عن الرغبة في إنشائها وتم تحديد مواقعها.فكانت لبنان هي الكارت الأخير لصنع حالة من التلميع الإعلامي والسياسي، في إشارة واضحة من نجاد أن إيران تتجاوز كل الحدود الداخلية والإقليمية، وأنها قررت أن تخاطب الغرب على حدوده الافتراضية وهي اسرائيل.
وسيظل السؤال الذي يطرح نفسه، هل الشعوب العربية في حاجة حقة إلى بطل ومخلص جاء ليحقق مكاسبه هو الشخصية على أجساد أوهامنا بوعد لن يحققه سوى بحروب بالوكالة، وانتظار من لا يجئ.؟


أكاديمي مصري
[email protected]