يرجع كثير من المفكرين اسباب فشل مشروع النهضة العربية الى عدة عوامل في مقدمتها البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية المتخلفة، ومفهوم الدولة وروح المواطنة التي لم تكتمل وتنضج والنظام الابوي البطريركي والنزعة الاستبدادية المنبثقة عنه وإشكالية الاصلاح والتحديث والتنمية المستدامة. هذه العوامل الاساسية تتداخل مجتمعة في اهميتها وتأثيرها وفاعليتها ونتائجها في دخول العرب في عصر الحداثة من ابوابها الخلفية.
ومن اجل اعادة قراءة التراث العربي ـ الاسلامي قراءة عقلانية نقدية ومغايرة، والكشف عن ابعاده وفضاءاته المعرفية ودوره في افول العقل العربي، ان لم نقل استقالته وانحطاطه، علينا طرحه للتفكيك والتحليل والنقد. فقد اعتبر محمد عابد الجاري ان استقالة العقل في الاسلام جاءت نتيجة عامل خارجي هو أفول العقلانية اليونانية، معتبرا ان الموروث اليوناني هو المحدد الثالث للعقل العربي، وهو نظام يعارض quot;المعقول الدينيquot; من حيث اعتقاده بان العقل البشري عاجز عن تحصيل أية معرفة عن البارئ من خلال تدبر الكون وان الحصول على معرفة الانسان للكون عليها المرور عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا. ان هذا النظام المعرفي هو quot;اللامعقول الفعليquot; وهو العقل المستقيل الذي يطلق عليه الجابري اسم quot;البرهانquot;. ويعلل الجابري ذلك عبر اقامة التحالف بين نظامي البرهان والبيان، كما حدث زمن المأمون من اجل حماية الدولة العباسية وفكرها الديني الرسمي، حيث قاد المأمون مدرسة ضد العرفان وهي quot;البيان على البرهانquot;، التي عارضها ابن سينا في ميدان الايديولوجيا، قائد مدرسة العرفان على البرهان. وهكذا فبحسب الجابري، حدث صراع داخل الثقافة الاسلامية بين نظامي البيان والعرفان، وكل منهما حاول ايجاد اساس وسند له في نظام البرهان.
غير ان جورج طرابيشي، ومن خلال تصديه لاطروحات الجابري ونقده لها، يرى بان استقالة العقل في الاسلام جاءت بفعل عوامل داخلية وليست خارجية، ومحكومة بآليات ذاتية ومأساة داخلية يتحمل فيها العقل العربي ـ الاسلامي مسؤولية اقالة نفسه بنفسه. وبمعنى آخر، ان اقالة العقل في الاسلام افرز حالات من التخلف والتبعية والهزائم المتتالية على مختلف الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

غياب العقل النقدي

في الوقت الذي كانت فيه النهضة حركة احياء وانعاش للتراث والعودة الى quot;العصر الذهبيquot; المفقود، للتعرف على ايجابياته وسلبياته. جاءت حركة النهضة في وقت لم تعد الاستفادة من الادوات العقلية الموروثة مفيدة ونافعة، لأنها لم تستطع التفاعل مع ما ابدعه تراثها الخاص، ولا فهم او استيعاب العلم والتقنية الاوربية الحديثة، الذي تجاوز تراثه وأحدث معه قطيعة، ولذلك فشلت تلك الجهود التي بذلت لتأسيس نهضة شاملة وعلى أسس حديثة. ويعود ذلك، بحسب اركون، الى الظروف والشروط الموضوعية التي غيبت العقل النقدي، وليس الى خلل او قصور ذاتي في بنية الفكر العربي ـ الاسلامي ولا الى الاستعمار والغزو الثقافي، لان مشروع النهضة كان يحمل معه معول هدمه وهو سلطته القمعية. ففي الوقت الذي دعي فيه رواد النهضة الى الحرية وسلطة العقل، بقي سؤال الحرية مبتورا من دون ان يحقق الشرط الاولي وهو تحقيق استقلالية العقل وعدم خضوعه لما هو خارج عنه وتجريده من الفاعلية النقدية، حيث فقد الفكر النهضوي بعده النقدي الذي يمارس من خلاله رؤيته العلمية للواقع ويحقق بذلك نقد ذاته ونقد الآخر، وكذلك نقده لمرجعيته ونصه المقدس. وبذلك عجز عن الوقوف امام الايديولوجية السلفية المغلقة في ابعادها الغيبية الاسطورية التي سيطرت على الوعي الاجتماعي وأنتجت ثقافة دينية رجعية اضعفت الحركة العقلانية والمشاركة الاجتماعية وأشاعت السلبية والمسلمات العامة، وباختصار لم يعد هناك هامش من الحرية والديمقراطية. وبذلك تراجع تيار النهضة عن تحقيق قطيعة مع الماضي وإحداث تقدم علمي وتقني واجتماعي يدفع الى النهوض والتقدم، لان نهوض المجتمعات مرتبط دوما بمدى قدرتها على التحرر والانعتاق من أسر الماضي والقيود التي تكبلها.
ان الكشف التاريخي عن العقل الاسلامي وكيفية اشتغاله يحتاج الى تقييم نقدي شامل لكل الموروث الاسلامي منذ تشكيل الفكر الاسلامي الاولي، مرورا بمرحلة تطور علم الكلام والازدهار العلمي والحضاري وتطور الفكر العقلاني لدى المعتزلة ومن ثم مرحلة الانحطاط التي بينت بوضوح دخول العقل العربي بأزمة عميقة واستمراره على ذلك حتى القرن التاسع عشر.

سؤال الحرية

ان قراءة وتفكيك وتحليل بنية العقل العربي تثير تساؤلات عدة في مقدمتها سؤال الحرية، الذي يشكل جوهر النهضة والحداثة والتقدم الاجتماعي. وبالرغم من انه اثار اهتمامات رواد النهضة العرب المنوريين، الذين حرموا من الحرية، إلا ان سؤال الحرية بقي معلقا من دون تحقيق ادنى شروطه الأولية، وفي مقدمتها الحرية الفكرية وتحقيق الاستقلال الذاتي للعقل العربي وجعله عقلا نقديا تنويريا يستطيع الوقوف امام النظام الاستبدادي وأيديولوجيته اللاعقلانية، التي سببت تراجع العقل امام تلك الايديولوجية السلفية وبخاصة في ابعادها الاسطورية التي سيطرت على الوعي الاجتماعي قرونا عديدة، وبذلك بقيت الثقافة العربية الاسلامية، على مستوى الممارسة، بعيدة عن روح التساؤل والتسامح والنقد.وبحسب اركون بالرغم فان الاسلام اعطى مكانة خاصة للعقل. ففي النص القرآني ساد quot;العقل العملي التجريبيquot;، وهو quot;عقل جياش يغلي بالحياةquot;. ففي القرآن جاءت عبارة quot;افلا تعقلونquot; او تنظرون او يتدبرون كدعوة الى استخدام العقل. وتعني بشكل اساس: افلا ترون الى عجائب الله في خلقه، اي لماذا لا تؤمنون؟ والمعنى الاولي لكلمة عقل في القرآن هو اقامة علاقة او رؤية للربط بين السماء والارض. والكلمة ليست تحليلا مفهوميا او منطقيا للظواهر، لأنها تطورت لاحقا بعد تطور المنطق والفلسفة في منتصف القرن الثامن وحتى منتصف القرن الحادي عشر الميلادي، حيث شهدت تلك المرحلة تطور الفكر العقلاني في الاسلام، التي غالبا ما توصف بـ quot; العصر الذهبيquot; للحضارة العربية الاسلامية.
ان دخول العقل الاسلامي ولأول مرة في مواجهة العقل الاجنبي، عن طريق العقل الفلسفي الاغريقي، اسس بدايات العقل الاسلامي الذي جسدته حركة المعتزلة، التي وصلت عند الجاحظ اعلى مستوياتها.

من تمنطق فقد تزندق!

تكمن المعضلة اذن في تراجع العقلانية العربية ـ الاسلامية الذي ادخل العقل في مرحلته المظلمة، بعد انحسار الفكر الفلسفي عمليا وتبدل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بحيث اصبح العقل ضيقا الى حد اعتبر الفكر الفلسفي كله عمليا كفرا بحسب مقولة quot;من تمنطق فقد تزندقquot; وارتبط بتعاليم مذهب معين او طائفة او اقليم معين، كما حدث في القطيعة شبه المطلقة بين الاسلام السني والاسلام الشيعي منذ القرن الحادي عشر. وهو ما ساعد على استمرار فاعلية سلطة النقل وتأثيرها داخل بنية التفكير العربية لقرون عديدة، ووقوفها امام اي توجه عقلاني ـ نقدي، وجعل الانتاج الفكري والفلسفي تقليديا يعيد انتاج ما في التراث دون تطوير وإبداع.
وحسب اركون فأن سلطة العقل لا تعني ابدا تجاوز سلطة quot;النصquot; او إلغاءه، بقدر ما هي قراءة جديدة في صور معطيات المعارف والعلوم الحديثة ومقاربتها عقلانيا. وبمعنى آخر، فان تجاوز quot;النصquot; لا يعني القطيعة مع التراث، وانما تحقيق نقلة نوعية وذلك بأخذ ما هو ايجابي ومفيد من الفكر الاوربي التنويري.
غير ان المشكلة الاساسية في فكر النهضة الاسلامية لم يكن تطورا ذاتيا، بقدر ما كان رد فعل سلبي على الاستعمار والحداثة في آن، ولذلك بقي العقل العربي موزعا بين التراث والمعاصرة، وهذا يعني ايضا ان اعادة قراءة التراث وفق العقل التسلطي يعيد انتاج تخلفه.
ويرى طرابيشي بأن الاسلام، المؤسس نفسه في دولة، ما كان له ان يتعقل ذاته إلا بوصفه دينا ودنيا معا. وهو ما ساعد على تطور العلوم الدينية والدنيوية كعلم التفسير والحديث واللغة فضلا عن علم الكلام والفلسفة. فإذا كانت المسيحية quot;ديانة خلاصquot; فان الاسلام quot; ديانة تكليفquot;. وقد ميز الاسلام نفسه بنفسه عن المسيحية بموقفه النقدي من الرهبانية، حيث اعطت النزعة المتعَية دفعة كبيرة لتطور العلوم الدنيوية.. ولم يعرف الاسلام حتى فترة انحطاط الحضارة الاسلامية مشكلة تضاد الدين والعلم كما في المسيحية. وهو ما أمكن الحضارة العربية الاسلامية، قبل انغلاقها على نفسها، ان تكون ذات صيغة علمية. وإذا كانت المسيحية تجسد الله في المسيح، فان الاسلام quot; يتكلم الله في القرآنquot;. وإذا كان التجسيد يخاطب الانسان في وجدانه، فان التكلم يخاطب عقل الانسان. quot;فالاسلام هو خطاب موجه الى العقل. ودعوة دائمة الى تشغيل الذهن لفهمه واستيعابه تفسيرا وتأويلا واستنباطاquot;. وهذا ما يمكن من وصف الحضارة العربية الاسلامية، كما يقول طرابيشي، بأنها حضارة quot;لوغوس مكتوبquot;، ولذلك ينبغي على الانسان ان يفرق بين نقد الخطاب الديني المعاصر وبين quot; الدينquot; وبين quot;الخطاب الدينيquot; الذي لا يكتسب من الدين قدسيته ولا اطلاقه، لانه اجتهادات لفهم النصوص الدينية وتأويلها، بحيث ألا يفهم من مناقشة اراء الفقهاء القدماء والمحدثين ومحاكمة افكارهم على انه تعرض للدين، وانما هو ضرب من الاجتهاد الذين يريدون غلق ابوابه.

و بالرغم من استيقاظ العقل العربي بصدمة الحداثة، بعد الاحتكاك بالغرب منذ بداية القرن التاسع عشر، فقد بقي التحديث الفكري والمجتمعي ممتنعا حتى عند رواد النهضة، لانه كان مرهونا بأطر وقوالب ايديولوجية، ولم يطرح كعلاقة بالحقيقة والواقع، ولم يتجدد ذاتيا كنشاط عقلاني، لان المثقف النهضوي لم يتحرر من اطره الايديولوجية. فبقدر ما كان يقيم علاقة نقدية مع هويته ومع العالم، بقدر ما كان ينتج علاقات جديدة مع الحقيقة والمعرفة وكذلك مع الذات والآخر، وبمعنى آخر اقامة علاقة ذات طابع مفهومي او عقلاني للكشف عن آلياته اللا معقولة واللا مفهومة. ومن جهة اخرى، بقي العقل العربي يتعامل مع هذه المسألة من منظور انثروبولوجي فيقوم بخلع جنسيته على الافكار والنصوص كأن يتحدث عن عقل اسلامي وفلسفة اسلامية ثانية، وهو ما يشكل حائلا امام اية محاولات لتجديد الفكر العربي، وخلق ارضية خصبة لولادة افكار ومفاهيم مستحدثة، مثلما حدث في مرحلة التنوير الاسلامي الاول، وكما جرى في عصر التنوير الاوربي، حيث لم يتوقف الفكر عن التجديد والابداع في المفاهيم والمناهج والاطروحات.