ان الوعي بالذات وبالآخر وادراك الواقع المتخلف والوعي به كان قد دفع العرب والمسلمين الى معرفة ذاتهم ومسائلتها ونقدها نقدا ذاتيا، وفي ذات الوقت، اكتشاف الآخر المختلف ووضع تساؤلات حول أسس مستقبل افضل. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر اخذوا يتطلعون الى تغيير الواقع الفكري والاجتماعي وفق رؤية متفتحة على الحضارات وفتح ابواب الحوار مع الثقافات الاخرى، ومواكبة افكار التقدم والتطور الاجتماعي، بعد ان شعروا بأنهم ما زالوا مكبلين بقيود المجتمع العثماني وسلطته الاستبدادية. وفي الوقت الذي اخذت فيه قوة التقاليد التي استحكمت في البنية الاجتماعية قرونا عديدة تحدث انهيارات اقتصادية وتفكك في الادارات المدنية والعسكرية الى جانب تصدعات داخلية من جهة، ومن جهة اخرى ساهمت قوى الاستعمار الخارجية، في تفكك الدولة العثمانية مما أدى في الاخير الى انهيارها.
وقد لعب رواد النهضة دورا هاما في اثارة روح النقد والتذمر عن طريق العلماء والمصلحين الكبار الذين حاولوا اصلاح الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتردية استنادا على الفكر الاسلامي النير وإذكاء روح النقد والمعارضة. ومن الملاحظ انه عندما يفقد المسلمون قيادة عالمهم يتحولون الى العقيدة الاسلامية يبحثون فيها ثانية عن هويتهم الضائعة والتخلص من محنهم وضياعهم.
وقد وجد المصلحون الاجتماعيون إمكانية تحقيق تقدم اجتماعي وثقافي يمكنه ان يقود الى حركة تحرر تهدف الى اصلاح شامل، اجتماعي- اقتصادي اولا وثقافي ـ سياسي ثانيا، وبالتالي تحقيق الهوية على اساس مبدأ quot;الاجتهاد quot; تلك العوامل التي كونت دافعا ديناميكيا موحدا يساعد على quot;نهضة الامةquot;، مثلما يساعد على اللحاق بالغرب المتقدم علميا وتكنولوجيا، وهو ما كون عاملا هاما آخرا في تحقيق الهوية، والذي انتج بدوره البحث عن مصداقيتها وصياغتها في مفاهيم أولية.
صورة الذات وصورة الاخر
انطلق الرواد الاوائل من ملاحظة ان الغرب تفوق عليهم قوة وعلما وبأسا ومن نواحي عديدة، في الصناعة والجيش والتعليم والإدارة والسياسة، وأدركوا بان هناك تشابها كبيرا بين ما كانوا عليه في العصور الوسطى وبين ما هم عليه الان من تخلف وركود وفي جميع النواحي، وأنهم لا يستطيعون الخروج من هذه الحالة ما داموا اسرى التخلف والركود. وهكذا وضع سؤال الحداثة ولأول مرة، صورة عن الذات وصورة اخرى نقيضه لها عن الآخر المتفوق وتحول هذا السؤال بالتدريج الى مشروع مقارن يختزل خطاب التحديث في مطلع القرن التاسع عشر في مشروع للخروج بالمجتمع من مثلث التخلف: الجهل والفقر والمرض، كأسباب للتخلف وكمعوقات لانطلاق مشروع جديد نحو الحداثة والتقدم.
والحقيقة، ان الوعي بالتخلف وبضرورة النهضة لا يعني بالضرورة حدوثها وتجاوز التخلف والركود الى التحديث والتقدم الفعلي، وانما يمكن ان يكون عامل دفع ومراجعة نقدية للعوامل التي تكمن في الشروط الذاتية والموضوعية وفي البنى الفكرية والمجتمعية المتحكمة،التي تعيق النهوض والتقدم، ومحاولة الكشف عن العوامل التي تختفي ورائها، كالعقلية الماضوية والسلطة الابوية الاستبدادية والخطاب الايديولوجي الذي انتجته.
في مثل هذه التربة الغنية بالتناقضات، تطورت الحركات الدينية ـ الاجتماعية الاصلاحية في نهاية القرن التاسع عشر، وفيها تبلورت اهتمامات رواد الاصلاح الاجتماعي في معرفة عوامل التخلف والركود الاجتماعي وطرح فكرة تقدم الآخر وأسباب قوته.
وبالرغم من الاهتمام المتزايد بعوامل التخلف والركود الاجتماعي، إلا ان رواد النهضة لم يأخذوا بالبعد المجتمعي، وبمعنى آخر ان التغيير المنشود لم يكن ينبع من الداخل، وانما من فكر متخلف ولد في مجتمع متخلف ومهزوم، كشفت حملة نابليون تخلفه وأثارت شكوكه ورغبته المضمرة في محاكاة الآخر المتقدم.
وجاء سؤال الحداثة صارخا: لماذا تقدموا وتأخرنا؟ لماذا تتقدمون ونحن نتأخر؟!(عبد الله النديم) ولماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم (شكيب ارسلان) ولماذا هم اقوياء ( ونحن ضعفاء )؟!
( سلامة موسى).
هذه الارهاصات الفكرية الجديدة التي تبحث عن اسباب التخلف والركود الذي وسم العالم العربي والاسلامي بالسلبية والعجز والقصور وعدم القدرة على تجاوز الذات هي جوهر الاشكالية الاجتماعية ـ الثقافية التي فرضت نفسها على العرب والمسلمين.
صدمة الحداثة
لقد اثارت مشكلة العلاقة المعقدة، بين الماضي والحاضر وبين التراث والمعاصرة وبين الانا والآخر، تساؤلات عديدة وكونت محورا رئيسيا في الفكر العربي الحديث منذ صدمة الحداثة.
والحقيقة طرح العقل العربي على نفسه هذه الاشكالية منذ سقوط بغداد على يد المغول. وقد اعيدت هذه الصيغة ثانية، ولكن بشكل اكثر قوة ووعيا وحدة، بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 في سياق مراجعة النفس ومحاولة فهم اسباب الهزيمة وتبعاتها وعلاقتها بالتخلف والثقافة وبنية العقل العربي من جهة، وارتباطها بالاستعمار والانظمة الأبوية ـ الاستبدادية من جهة اخرى. وهو ما دفع بالعقل العربي الى ان يبحث عن مخرج ملائم له. وقد وجده في طريقين لا ثالث لهما: اما ان يحتمي بتاريخه وتراثه وامجاده الغابرة ويتخذ منها درعا حصينا يدفع عنه غول الحداثة الذي ارتطم به و الذي انتجه الغرب المتفوق علميا وتكنولوجيا، او ان يرضخ فيساير تيار التحديث والاصلاح، آملا ان يكون له نصيب في ذلك التقدم المادي والمعنوي الذي حقق للحضارة الغربية تفوقا ساحقا على سائر الحضارات الاخرى في العالم.
ان صدمة الحداثة ايقظت الوعي بها من خلال الاحساس البسيط والملاحظة المباشرة التي يفرزها الواقع الذي يتسم بالتخلف والركود والجمود من جهة، وإثارته التساؤلات الحرجة حول الاصلاح والتحديث والتقدم المطلوب من جهة اخرى.
ان الصدمة النفسية الى جانب الصدمة الحضارية التي تعرض لها الوعي العربي، احدثت صراعا وتناشزا بين فئتين واسعتين يطلق عليهما علي الوردي، بـ quot;فئة المجددينquot; و quot;فئة المحافظينquot;، واحدة دعت الى الاصلاح والتحديث والأخذ بعناصر الحضارة الغربية المادية والمعنوية، والاخرى تمسكت بالنظام القائم ومؤسساته التقليدية وطالبت بالرجوع الى الاسلام الاول وقراءته وإعادة انتاجه من جديد.
تخلف البنى الفكرية والمجتمعية
لدراسة وفهم وتفكيك وتحليل الشروط الذاتية والموضوعية لتخلف البنى الفكرية والمجتمعية علينا اولا طرح اسئلة التخلف والنهضة والحداثة للمناقشة وكذلك دراسة المعوقات التي وقفت وما تزال امام نهضة العرب وتقدمهم في العصر الحديث، وبصورة خاصة البنية الفكرية والمجتمعية.
حاول فكر النهضة بمفاهيمه واطروحاته وأطره المنهجية، ابتداءا من منتصف القرن التاسع عشر احداث قطيعة معرفية مع ما سبقه، بعد ان دخلت الى العالم العربي والاسلامي مفاهيم جديدة لم يألفها كالحرية والمساواة والاستقلال والتقدم العلمي والتكنولوجي وحقوق الانسان، التي انتجت وعيا جديدا بالهوة التاريخية واحدثت هزة عميقة في جوهر المنظومة المعرفية القديمة وهيأت شروطا جديدة حركت عناصر معنوية من داخل البنية الفكرية والمجتمعية وزرعت مفاهيم غربية جديدة في تربة غريبة عنها، مما احدث خللا وصراعا وتناشزا والتباسا في بعض الافكار والمفاهيم والقيم، بعد انتقالها او تقليدها بوعي او بدونه، دون هضمها وتطويرها او ابداع ما يماثلها.
والحقيقة، فان الافكار والمفاهيم والقيم الجديدة التي رافقت النهضة العربية في بداية القرن التاسع عشر كانت تهدف اساسا الى تأصيل مقومات التحديث والحداثة من اجل مواجهة الغرب الاستعماري المتقدم، كرد فعل على صدمة الحداثة، وكانوا يبحثون لها على اسانيد في التراث الديني والفكري ـ العربي ـ الاسلامي، ولذلك جاءت تلك المقولات مجرد تقليد للحداثة الاوربية وتبرير لها في ذات الوقت، ومن تلك التبريرات عملية معقدة من الاجتهادات الفكرية التي تضفي الى قبول الحداثة وشرعنتها وتأصيلها من جهة، والى محاولة تحديث الفقه عن طريق فتح باب الاجتهاد وربط الخطاب الديني بمقتضيات العصر.
التعليقات