يعتبر ماكس فيبر(Max Weber 1864-1920)، عالم الاجتماع الاقتصادي الالماني المعروف، أحد ابرز المفكرين الذين اهتموا بدراسة وتحليل ظاهرة الحداثة وكيفية نشوئها وتطورها وانتشارها وسيطرتها على المجتمعات الصناعية المتقدمة، منطلقا من تساؤله الرئيسي وهو: لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتقنية التي انتجت المشروع الاقتصادي الحر والعقلانية والبيروقرطية في أوربا الغربية وامريكا الشمالية ولم تظهر في غيرها من الدول؟
فالحداثة عند ماكس فيبر هي: عقلنة العالم، أي فهم العالم بشكل علمي وعقلاني رشيد وليس بشكل غيبي ميتافيزيقي.
وبحسب فيبر، فان الفرق بين المجتمعات الحديثة والمجتمعات التقليدية، هو ان الأولى يسيطر عليها quot;رفع السحر عن العالمquot; وتخليصه من الاساطير والخرافات، أما الثانية فما زالت تسيطر عليها النظرة السحرية للعالم المليئة بالأساطير والخرافات والمعجزات.
والحداثة مفهوم يشير بوجه عام الى سيرورة الاشياء بعد ان كان يشير الى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للانسان والعقل والهوية تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى، حيث عملت الحداثة على احداث تحولات واسعة وتغيرات عميقة في بنى الانتاج والمعرفة والاستطاعة التكنولوجية. وقد طال التغيير كافة مستويات الوجود الانساني وشمل جميع المجالات الاقتصادية والعلمية والتقنية والاجتماعية والسياسية والفلسفية.

نشأة الحداثة
ارجع ماكس فيبر، نشأة الحداثة الى الدور الفاعل للمشروع الرأسمالي الحر والإدارة البيروقراطية، كمؤسستين عقلانيتين، قادتا الى عقلنة العملية الاقتصادية والاجتماعية لأن هناك علاقة داخلية حميمة بين الحداثة والعقلانية. واذا كانت العقلنة قد اتخذت طابعا مؤسسيا منظما في الاقتصاد والادارة، فانها شملت ايضا المجتمع الغربي برمته. وقد أدت هذه العملية الى نزع الطابع السحري عن العالم وتفكيك التصورات التقليدية القديمة، وهو ما أدى الى تطور العلوم التجريبية واستقلال الفنون وتطور الثقافة الجماهيرية. وقد اكتسحت العقلانية الحياة اليومية وفككت بالتدريج التنظيمات الحرفية التقليدية كبنى اجتماعية واقتصادية وثقافية وأعطت أهمية قصوى وحاسمة للسلوك الاقتصادي العقلاني الرشيد في المجتمع الحديث. وكما يقول هابرماس، فالحداثة عند فيبرلا تقتصر على اضفاء طابع دنيوي وعقلاني على الثقافة، وانما أدت الى تطور وتحديث المجتمعات لأوربية.

ويرجع ماكس فيبر جميع التحولات البنيوية التي انتجتها الحداثة والتي قامت على طريق العقلنة الى خاصية من خصوصيات الغرب، وذلك بسبب وجود رابط داخلي، وليس عرضيا، يكون هذه الصيرورة العقلانية التي طورت العقل التجريبي الحديث والفنون والتمايز حول المشروع الرأسمالي الحر والجهاز البيروقراطي للدولة، اللذان يتداخلان ويتشابكان معا في وجهة نظر وظيفية، كما يفسر هذه التحولات بكونها انواعا من الانشطة العقلية (اقتصادية وادارية)، التي تتجه نحو غايات محددة، بعد ان تلاشت اشكال الحياة التقليدية لما قبل الحداثة، والانتقال من النموذج الصناعي البسيط الى النموذج الرأسمالي المعقد. وذلك بسبب السلوك ذي النزعة الانتاجية الذي عمل على تسارع نمو الرأسمالية واظهر، كما يقول فيبر، quot;البحث عن النجوعquot; الذي حرضته على النجاح الفردي، وتراكم الثروة التي يجب ان تكون واجبا ينذر الانسان نفسه لخدمتها عن طريق الزهد والتقشف والادخار والشعور بالمسؤولية لمضاعفتها بواسطة العمل الدءوب. لقد كون هذا الاسلوب العقلاني الرشيد في الحياة، ذهنية اقتصادية وجدت مبدأها الاخلاقي في الرأسمالية.

الدين والحداثة
اما العلاقة بين الدين والرأسمالية فقد بحثها في كتابه المعروفquot;البروتستانتية وروح الرأسماليةquot;، حيث لم يفصل فيبر بين الدين والدولة، كما هو مشاع، فقد لعب الدين دورا عظيما في نشأة وتطور الفكر الحداثي واكسبه قدرا من الاخلاقية عن طريق منظومة من القيم والمعايير الثقافية. فبالرغم من ان الحداثة كانت قد ألغت الدور الاساسي للكنيسة وسلطتها الكهنوتية، فهذا لا يعني سحبها من نطاق المجتمع، وانما دعما لدور الدين لمسيرة الحداثة في التأثير الذي يمنحه للفكر الاقتصادي والنشاط التجاري في المجتمع الرأسمالي.
ويظهر دور الدين في ظهور الحداثة من خلال عقلنة السلوك الفردي من جهة، ومواجهة هيمنة العقل على الحداثة والتنوير من جهة اخرى، عبر عقلنة الفكر والسلوك. وما تطور القانون والاقتصاد والفن والعلوم والدولة في أوربا إلا دليل على ما انتجته انماط التفكير العقلانية التي هيأت للحداثة.
ولا تعني العقلنة سوى انماط التفكير والعمل العقلاني الرشيد التي توظف الفنيين والخبراء والمتخصصين وفي مختلف المجالات وتدفعهم الى تحسين قدرات المجتمع على اتخاذ القرارات العقلانية وانجاز المشروع الحداثي الحر.

العقلانية والبيروقراطية
وقد حظيت اراء ماكس فيبر حول نمو العقلانية والبيروقراطية في الرأسمالية باهتمام كبير واثارت مزيدا من المناقشة والجدل، بعد ان تحقق ما تنبأ به من توسيع رهيب وملحوظ في العقلانية والبيروقراطية مما لا يمكن تجاهله او نكرانه. فهي اصبحت من الملامح الاساسية التي تطبع المجتمعات الصناعية المتقدمة، وبخاصة الرأسمالية. وهذه انما تثير من جديد تساؤلات عدة حول القضايا التي طرحها ماكس فيبر في بداية القرن الماضي وتتمثل في التطور الهائل في حجم وكثافة وتعقد الاجهزة البيروقراطية وتعقد الطرق والأساليب التكنولوجية وتعاظم قدرة التنظيمات العقلانية الضخمة التي اصبحت اليوم تتحكم في الدول والشعوب وتسيطر عليها من خلال الاشكال المعقدة لفنون الانتاج والتسويق ووسائل الدعاية والإعلان والاتصال المختلفة، وتحولها الى مجتمعات استهلاكية تنتج بضائع اكثر من الحاجة.
ولم يظهر فيبر تحمسا لمثل هذا المجتمع الذي يتعاظم فيه التنظيم البيروقراطي العقلاني، الذي ينظر اليه البعض على انه قدر المجتمعات الصناعية الحديثة، وانما ابدى خشيته من ان يؤدي الى تدمير ما يجعل للحياة قيمة مثل حرية الاختيار والمسؤولية.

وهذه انما تثير من جديد تساؤلات عدة حول القضايا التي طرحها ماكس فيبر في بداية القرن الماضي وتتمثل في التطور الهائل في حجم وكثافة وتعقد الاجهزة البيروقراطية وتعقد الطرق والاساليب التكنولوجية وتعاظم قدرة التنظيمات العقلانية الضخمة التي اصبحت اليوم تتحكم في الدول والشعوب وتسيطر عليها من خلال الاشكال المعقدة لفنون الانتاج والتسويق ووسائل الدعاية والاعلان والاتصال المختلفة، وتحولها الى مجتمعات استهلاكية تنتج بضائع اكثر من الحاجة. وبهذا تنتج الاجهزة التكنولوجية والفئات المسيطرة عليها تفوقا غير اعتيادي على الناس بحيث يصبح الفرد مقابل هذه القوة الاقتصادية ملغيا تماما. وبالغائها الفرد تصعد هذه القوة عنف المجتمع ضد الطبيعة بقوة اكبر، ويختفي الفرد من الجهاز التكنولوجي الذي يخدمه.
غيران من أهم خصائص الرأسمالية البرجوازية هو التنظيم العقلي للعمل الحر الذي دعاه فيبر ب quot;البيروقراطيةquot; . وهي ظاهرة معقدة تتضمن نوعا من العلاقات الاجتماعية التي تهدف الى تحقيق غرض غير شخصي وتقوم على نوع من تقسيم العمل الذي يتضمن بدوره اختصاصا في الوظائف المختلفة الموزعة توزيعا حسب مقاييس فنية وتدار من قبل مؤسسة مركزية تتطلب مهارات وخبرات فنية من المساهمين فيها، فهي تفصل بين الدائرة والبيت وبين الاموال العائدة الى الموئسسة والملكية الخاصة. وتتصف البيروقراطية بالضبط والانسجام والتنظيم العقلاني الرشيد.
كما ربط ماكس فيبر بين البيروقراطية والنظام الرأسمالي الحديث حيث ترتبط الرأسمالية الحديثة بمجموعة من القيم، كحالة عقلية، وتشكل مجموعة من المواقف العقلانية الموجهة نحو فعاليات اقتصادية، حيث توجد صلة وثيقة وعميقة بين الانتماء الديني والتجمع المهني، وبمعنى اخر، هناك علاقة وثيقة بين الموقف العقلي او روح الرأسمالية وبين الاخلاق البروتستانتية، في حين لا توجد مثل هذه العلاقة مع الكاثوليكية. وبالرغم من ان هذه العلاقة ليست علاقة السبب بالنتيجة، وانما هدفها توضيح الدور الذي تلعبه المواقف والقيم الدينية. فالبرتستانتية حاولت ان تبرر خلقيا الفعاليات الاقتصادية التي تعمل على احتياز الثروة وتراكمها. وبذلك اكدت البروتستانتية على العلاقة الحميمة بينها وبين الرأسمالية وان الاخلاق البرتستانتية كانت عاملا مهما في ظهور الرأسمالية.
ان نظرية ماكس فيبر العامة، كما يراها غولدنر، تاثرت الى حد بعيد باتجاهه الاكاديمي الرصين . وان اهم ما يميزه انه كان المانيا بوضوح، وان ما يؤدي الى فهم فكره هو وضعه في مجرى تاريخ الفكر الالماني، الذي يظهر بوضوح انه كان يتبع المدرسة التاريخية المثالية، وكذلك معرفته المباشرة بالبيروقراطية الالمانية، وبمعنى أدق، بالبيروقراطية الحكومية اكثر من البيروقراطية الخاصة، التي جعل منها بناء اجتماعيا ونمطا ثقافيا ونموذجا مركزيا لكل البيروقراطيات وأمدته، في ذات الوقت، بإطار منظم بنى على اساسه الحقائق التي توفرت له عن طريق دراساته وأبحاثه المدرسية.
في مقالات قادمة سوف نحاول الكتابة عن حركات الاصلاح الديني في أوربا ودورها في التحديث والحداثة وكذلك عن أطروحة ماكس فيبر عن الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ورِؤيته عن الأديان العالمية وخاصة الدين الاسلامي.