في كتابه quot; الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية quot; الذي صدر عام 1922 عالج ماكس فيبر دوافع السلوك الديني في عدد من الاديان الكبرى، كالهندوسية والبوذية والكونفوسيوشية والتاوية، الى جانب الديانات السماوية الأخرى، كاليهودية والمسيحية والاسلام، وطرح فيه نظريته التي مؤداها:
ان النظام الرأسمالي الحديث الذي تطور خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في اوربا يعود في روحه الى الذهنية البروتستانتية التي انتجت قيما ومعايير عقلانية جديدة شجعت على العمل الحر والتنسك والادخار وخلقت مناخا فكريا ساعد بدوره على تطور النظام الاقتصادي الحر وبالتالي على تطور ونمو الرأسمالية في اوربا.
وانطلاقا من هذه المقولة فقد ذهب ماكس فيبر الى ان الاديان الاخرى- بعكس البروتستانتية- لم تستطع خلق قيم ومعايير واخلاق تشجع على العمل الحر والتنسك والادخار وتراكم الثروة. فالبوذية،على سبيل المثال، قامت على التقشف والزهد في الحياة دون الاهتمام بالعمل الحر، والاسلام لم يكن دينا تنسكيا، ولكنه بنفس الوقت لم يشجع على العمل الحر والادخار، أما اليهودية فقد شجعت على العمل الحر والادخار ولكنها ام تستطع خلق قيم واخلاق تنسكية، وبذلك لم تستطع تلك الاديان ان تلعب دورا مهما في تطور النظام الاقتصادي ونمو الرأسمالية.
وقد لاحظ فيبر بان المقاطعات التي تسود فيها العقيدة الكاثوليكية بصورة عامة، هي أقل تطورا من الناحية الاقتصادية والصناعية من المقاطعات التي تسود فيها العقيدة البروتستانتية. وقد قرر بان العلاقة بين البروتستانتية والتطور الاقتصادي والصناعي يمكن ملاحظتها تاريخيا وعلى المستوى الأوربي. كما لاحظ بان أولى الدول الصناعية وأولى الشعوب التي تطورت فيها الرأسمالية هي دول الاراضي المنخفضة، كهولندا وبلجيكا وانكلترا، وكانت بروتستانتية، مع العلم بان الدول الكاثوليكية الغنية مثل ايطاليا واسبانيا والبرتغال كانت قد لحقت بها في زمن متأخر. وقد وجد فيبر، بان هذه العلاقة الفريدة لا يمكن ادراكها بسهولة والتي تربط بين البروتستانتية والتطور الاقتصادي.

ومن اجل توضيح أصول هذه العلاقة الفريدة بدأ ماكس فيبر بدراسة علاقات الانتاج الاجتماعية والاقتصادية لمرحلة ما قبل الرأسمالية في اوربا ووجد بان التطور الاقتصادي في اوربا كان قد ارتبط بذهنية اقتصادية لها خصوصية، ولكنها غير طبيعية، وعبرت عن نفسها، حسب فيبر، بان هدفها الاساس ليس الربح، والربح الوفير، وان هذه الخصوصية كانت قد ظهرت في جميع المجتمعات التي قامت بمشاريع اقتصادية حرة، حيث ان الرأسماليين الأوائل في القرنين السادس عشر والسابع عشر كانوا يطمحون في الحصول على الربح والفوائد، إلا ان هذا الربح وهذه الفوائد لم تكن هدفا لذاتها، وبمعنى آخر لم تكن هذه الفوائد والارباح وسيلة لإشباع الحاجات الاستهلاكية الذاتية، وهذه الخصوصية ميزت اولئك التجار الرأسماليين الأوائل عن تجار المفرد وكل التجار الصغار في العصور القديمة.
كان الهدف الاساسي في جمع الثروة في المرحلة الاخيرة من القرون الوسطى هو الاستهلاك الذاتي حيث كان النبلاء واصحاب التجارة الخارجية بصورة عامة قد جمعوا الثروة من اجل ان يستمتعوا بها ومن اجل ان يعيشوا بواسطتها حياة مترفة. إلا ان الرأسماليين الأوائل، الى جانب اهتمامهم بجمع الثروة، كانوا مقتصدين الى حد بعيد بحيث اعتبروا ان اي استهلاك يخرج عما هو ضروري كأنه تبذير. وقد شاع المثل حينذاك، بأن كل فلس يحصل عليه المرء يجب ان يوظف في التجارة وان كل ما يوظفه المرء يجب ان يتحول الى نقود وان تستخدم هذه النقود من اجل الحصول على نقود اكثر. وهذا ما دعاه كارل ماركس: quot; تراكما من اجل ارادة تراكم الثروةquot;. وبهذا فلم يختلف كارل ماركس عن ماكس فيبر في وصف خصوصية واضحة المعالم للرأسماليين الأوائل إلا قليلا، وكذلك وصفه للرأسمالية الحديثة بأنها:quot;تنظيم عقلاني للعمل الحرquot;، التي اراد ماكس فيبر ان يعطي لها نفس المعنى الذي عناه ماركس تقريبا.
وقد اكد فيبر منذ البداية، بأنه ليس هناك رأسمالية واحدة وانما عدة رأسماليات، كل واحدة منها تحمل خصائص خاصة بها، كالرأسمالية السياسية والرأسمالية الصناعية والرأسمالية البرجوازية وغيرها، مؤكدا على انه لا يمكن ظهور النظام الرأسمالي اذا لم يكن الاقتصاد المالي قد نضج الى الدرجة التي يهيئ لها الظروف لانبثاق الرأسمالية.
ولذلك سعى فيبر للوصول الى quot;نموذج مثاليquot; للرأسمالية انطلاقا من السمات العامة التي تشترك بها والتي تتحدد بدورها بعدد من الظواهر الثانوية المشتركة.
وقد حدد فيبر الرأسمالية بوجود quot;المشروع الحرquot; الذي يقوم على التنظيم العقلاني للعمل والانتاج والذي يهدف الى تحقيق الحد الاقصى من الربح بواسطة التنظيم البيروقراطي.
ان التنظيم العقلاني الحر للعمل والانتاج هو ما يشكل تاريخيا السمة الفريدة التي تسم الرأسمالية الغربية.

درس ماكس فيبر حركات الاصلاح الديني من لوثر الى كالفن ليبحث في عقيدتهما عن الخطوط التي يوثق بها العلاقة التي ربطت بين العقيدة الدينية البروتستانتية وبين روح الرأسمالية. فالصراع العنيف بين الدولة القومية والكنيسة والاحداث المتتالية التي شهدتها أوربا خلال القرن السادس عشر كان لها أثر بعيد في تغيير الذهنية الاقتصادية للعصور الوسطى.( انظر مقالنا حول حركات الاصلاح الديني في أوربا المنشور في ايلاف في 16 مايو 2010)
وكانت حركات الاصلاح الديني وعلى رأسها الحركة التي قادها مارتن لوثر(1483-1546) ضد الكنيسة الكاثوليكية والتي اعلن فيها الحرب ضد البابويه والكهانه والتي دعمت من قبل الحركة القومية والحركة الطهرية في انكلترا والاراضي المنخفضة وكذلك من الطبقة الوسطى الناشئة، مثلما دعمت من قبل الملوك والامراء الذين كانوا يتطلعون الى مخلص ينقذهم من سيطرة الكنيسة وأبوتها الفاسدة.
إلا ان تعاليم لوثر لم يكن لها ذلك المفعول القوي مثلما فعلته تعاليم جون يوهانس كالفن(1509-1564) الذي اضاف الى تعاليم لوثر قيما دينية واقتصادية جديدة حيث كتب كالفن عام 1536 حول quot;مؤسسة المسيحquot; على اساس الاعتقاد بان الانجيل هو الينبوع الوحيد والأصيل للحقيقة الدينية. ومن الحركة الكالفينية تفرعت الحركات البيوريتانية والتنسكية والحركات الطهرية الاخرى.
تنطلق التعاليم الكالفينية الالهية من ان الله كان قد قدر مشيئته الالهية منذ الازل فترك رحمته تنزل على قسم من خلقه واصطفاهم على خلقه وجعل قسما منهم كفارا مدنسين فنزلت عليهم اللعنة الابدية. ومن يريد معرفة انه من المنتمين الى المقدسين او الى المدنسين عليه ان يبحث عن علامات يمكن ان تشير الى اولئك المختارين، والتي تزيد في الاعتقاد بان الحياة على هذه الارض وفي عيشة كريمة، تعني الاستغناء عن الراحة وعن التمتع بمباهج الحياة وان ينذر نفسه من اجل العمل المثابر الدءوب، وهذا دليل على على ان المرء هو من اولئك المختارين المقدسين. وهكذا دفعت التعاليم الكالفينية الطهرية الى ان يتحكم المتطهر الكالفيني في نفسه ويخشى غرائزه وأهواءه وان يجعل من نفسه مستقلا فلا يثق إلا في نفسه، وان يفكر بجد فيحسب لكل شيء حسابا قبل ان يبدأ فيه، مثلما يفعل الرأسمالي اليوم. وهكذا دفعت التعاليم الكالفينية الالهية الى التقشف والزهد في الحياة، ولكن ليس كالتقشف والزهد في نظام الكهنة الكاثوليكي الذي يهدف الى خدمة التأمل أملا في التقرب من الاسرار الملعونة. ان تنسك المختارين هو تنسك داخل هذا العالم، وهو تنسك اختياري في الحياة المهنية ويخص جميع المختارين.
لقد دعى كالفن الى مساهمة الجميع في الحياة الاقتصادية مساهمة فعالة، الى جانب الزهد والتقشف والادخار قائلا: quot;من اجل الله ينبغي عليكم ان تعملوا حتى تصبحوا اغنياءquot;. كما اضاف الى التعاليم البروتستانتية-اللوثرية-الاصلاحية مبدأ جديدا هاما في تاريخ التطور الاقتصادي الرأسمالي هو اباحته للربا على القروض، الذي حرمته الكاثوليكية مثلما حرمته باقي الاديان السماوية الاخرى. ان التبرير الديني لتحليل الربا، كسلوك اقتصادي جديد، يمثل بالضبط السعي المتواصل للرأسماليين الأوائل للحصول على الربح، ليس من اجل التمتع به، وانما من اجل الارادة الذاتية نفسها بحيث تصبح الثروة والغنى مؤشرا للمختارين، وهذا بالنسبة للرأسماليين الاخرين، ما هو إلا ضمير منافق في كسب الثروة واحتيازها، وايجاد شرعية جديدة لهدم التقاليد القديمة الموروثة، وبنفس الوقت اضفاء اخلاقية جديدة على تقسيم العمل الاجتماعي الجديد وإضفاء العناية الالهية على عملية تكوين الثروة وتراكمها.

وقد ربط ماكس فيبر بينquot;الذهنية البروتستانتيةquot; وبين quot;العقلانية الأوربيةquot; التي جعل منها ماكس فيبر شرطا روحيا أوليا ومهما في نشوء الرأسمالية.فالتخطيط العقلاني المنظم للسلوك داخل هذا العالم، الذي اطلق عليه فيبر quot;عقلانية السيطرة على العالمquot;، ميز به بين العقلانية كتخطيط منظم داخل هذا العالم، وبين التخطيط المنظم للسلوك خارج هذا العالم، الذي يتمثل بالتقشف التأملي في ظل نظام الكهنوت الكاثوليكي.
بهذا السلوك العقلاني الرشيد فقط استطاعت أوربا ndash; حسب فيبر- ان تصل الى ما وصلت اليه من تقدم وما احرزته من خصوصية وفرادة ميزتها عن جميع الحضارات. وبهذه العقلانية التي تريد السيطرة على العالم نظر فيبر الى أوربا والى العالم. وما محاولاته لدراسة الحضارات والأديان العالمية إلا محاولات لإثبات رأيه في خصوصية وفرادة العقلانية الاوربية تاريخيا.

لقد جاءت اطروحة ماكس فيبر حول البروتستانتية وروح الرأسمالية لإعادة الاعتبار الى الثقافة والدين، كقيم وممارسات، ليعارض بها اطروحة كارل ماركس التي تولي عنايتها للتشكيلات الاجتماعية- الاقتصادية المحددة للثقافة التي تتغير بتغير الواقع الاقتصادي المادي وان القيم الدينية هي المسؤولة عن نوع ومستوى النشاط الاقتصادي الذي كون روح الرأـسمالية.
كما ان اطروحته تبقى نظرية من جانب واحد حين تؤكد على حتمية الفكر باعتباره مصدرا وحيدا للمعرفة دون ان تأخذ بنظر الاعتبار العوامل الاخرى التي ساعدت على نمو المشروع الاقتصادي الحر، كانفصال العمل اليدوي عن العمل الحرفي وتطور المانيفكتورة وتدفق المعادن والمواد الأولية والنقود ونظام الصيرفة وما رافق ذلك من تطور ثقافي وعلمي وتكنولوجي. كما وجهت انتقادات اخرى الى مفهوم فيبر حول quot;العقلانية الأوربيةquot; وخصوصيتها وفرادتها وتعصبه لها انطلاقا من فكرة التمركز الأوربي التي سيطرت على الفكر الغربي.