كانت البداية، صياغة مشروع نهضوي قادر على مواجهة التحديات المصيرية الاستعمارية والتحديثية التي وجدوا فيها خطرا على مصير الاسلام والمسلمين. وقد برز عدد من الرواد الاوائل الذين باركوا افكار النهضة ووضعوا اسس مشروع حضاري نهضوي للخروج من مأزق التخلف والركود. غير ان مشروع النهضة اصطدم بمواقف وصراعات ومناقشات عقيمة وبخاصة مع الخطاب الايديولوجي للسلطة التي عجزت عن مواكبة التحديث المطلوب.
لقد واجه العرب مهمات عديدة في مقدمتها التحرر من الحكم العثماني الاستبدادي والاحتلال الاوربي، وكذلك مهمات التحديث المعقدة وكيفية التعامل مع الغرب، وبخاصة مع الحضارة الغربية المتقدمة علميا وتقنيا، والموقف من التخلف والركود من جهة، ومن الدين والتراث من جهة ثانية، ومن النظام السياسي السائد من جهة ثالثة. وبحسب حليم بركات نشأت وتبلورت ثلاث تيارات رئيسية سيطرت على الساحة آنذاك وهي :
اولا ـ الجماعة الدينية التقليدية التي اكدت على ضرورة بقاء الخلافة الاسلامية والدفاع عنها بوجه الغرب الاوربي. وقد انقسمت الى مجموعتين، واحدة محافظة تمسكت بقوة بالنظام القائم ومؤسساته التقليدية، وأخرى سلفية رفضت بقوة النظام القائم ومؤسساته التقليدية السائدة وطالبت بالعودة الى منابع الاسلام الاول.
ثانياـ الجماعة الدينية المحافظة التي ربطت نفسها بالخلافة العثمانية وبالزعامات والأعيان متمسكة بمقولة طاعة الحاكم المطلقة على اساس انها واجب ديني.
وتعود هذه الآراء الى عدد من المفكرين الاسلاميين القدامى امثال الماوردي وابن تيمية، التي تؤكد على ان الخلافة مستمدة من الشرع، وان القرآن فرض طاعة أولي الامر منهم، وان الحاكم خليفة النبي (ص) وقد تم اختياره من قبل اهل الحل والعقد ومن حق الحاكم، كما يقول ابن تيمية، ان يفرض الطاعة على رعاياه ومن واجب الرعايا طاعة الحاكم، حتى لو كان ظالما، من اجل درء الفتنة وتجنب انحلال الامة. وهذه المقولات شكلت انذاك بنية فكرية ـ شرعية وبيروقراطية، فرضت للتشكيك بدعوى اقامة حكومة دستورية، منطلقين من ان الخليفة ظل الله في الارض، ومن واجب المسلمين طاعته.
ثالثاـ الجماعة الدينية الاصلاحية التي نادت بإحياء الاسلام والعودة الى الاصول وتوحيد الدول الاسلامية في امة واحدة لمواجهة الغزو الاوربي السياسي والثقافي، لبناء المستقبل وإعادة العصر الذهبي المفقود، والطريق الى انقاذ الامة يكون عن طريق الجامعة الاسلامية.
وكان في مقدمة هؤلاء المصلحين الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم. وكان التساؤل المحوري الذي يشغل بالهم هو : كيف يمكن للمسلمين ان يصبحوا جزءا من العالم الحديث دون ان يتخلوا عن دينهم؟
وقد انطلق الرواد الأوائل من مقولة انحطاط المجتمعات الاسلامية وضرورة الرجوع الى الينابيع الاصلية وإحياء الدين الصحيح، مع الأخذ بأسباب العلوم الاوربية المتقدمة بشرط عدم التخلي عن الدين الاسلامي وفي مقدمتهم الافغاني ومحمد عبدة.
اما التيار اليبرالي، الذي يمثل مجموعة من المفكرين الذين عملوا في سبيل القومية وإحياء اللغة العربية وآدابها والسعي لإقامة الوحدة على اساس اللغة والأرض والانتماء ألاثني على اساس عقلاني، فقد وضعوا القومية العربية كبديل للخلافة الاسلامية والعلمانية كبديل للسلطة الدينية والعقلانية كبديل للإيمان المطلق والتحرر الاجتماعي كبديل للتقاليد. وكان في مقدمة هؤلاء ناصيف اليازجي واحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وجرجي زيدان وقاسم امين وصدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وغيرهم.
وكان الليبراليون العرب وضعوا امالا كبيرة على الحضارة الغربية وتقاليدها الليبرالية. وقد تمثلت افكارهم في المقالات التي نشرتها مجلة المقتطف التي صدرت بحدود عام 1876 التي دعت الى نشر الوعي القومي ـ العلماني.
ثالثا ـ التيار التقدمي وهو تيار عقلاني تحرري ذهب ابعد مما ذهب اليه التيار الليبرالي، حيث نادى بالمبادئ الاشتراكية للتخلص من الاستبداد والتخلف، عن طريق احياء المعارف والعلوم والتقنيات الحديثة، وقد مثل هذا التيار عبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل وفرح انطوان. فقد دعى الكواكبي الى الدين الحقيقي وقال بان الاصلاح لا يتم في ظل الاستبداد والتخلف، وان الاشتراكية تهدف الى تحرير الانسان من الاستبداد ونشر العدالة والمساواة بين الناس.
ظهرت الحركة العلمانية بين المسلمين والمسيحيين العرب، واتسم فكرهم بطابع علماني، مع شعور رومانسي بعظمة الماضي وبناء أمة عربية تعمل قطيعة مع الدين ودعوة ليبرالية للاستقلال عن الدولة العثمانية. وقد تطورت هذه الافكار بعد تأسيس quot;لجنة الاتحاد والترقيquot; عام 1906 التي دعت الى اقامة حكومة دستورية تؤمن بالحرية والمساواة لجميع رعايا الدولة العثمانية. وقد شكلت هذه الحركة بدايات الحركة القومية العربية. وكان في مقدمة رواد هذه الحركة شبلي شميل وفرح انطوان، اللذان دعوا الى فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية. وكان شبلي شميل أول مبشر بالاشتراكية.
وكان المشروع القومي قد استعير من النموذج القومي في الدول الاوربية في محاولة لإقامة دولة ـ أمة عربية تتصدى للتحديات التاريخية، رغم التباينات الكبيرة بين الدول العربية والإسلامية، بعد القضاء المفاجئ على دولة الخلافة في بغداد وعدم استطاعة الدولة العثمانية استرداد الخلافة وإعادة امجادها. غير ان الحركة القومية كانت تؤكد على الاستقلال القومي والحرية الفردية اكثر مما كانت تؤكد على الحرية والمساواة والتنمية الاجتماعية.وكان اغلب روادها ينحدرون من الطبقات الوسطى، التي من اهدافها تفجير الطاقات الوطنية والتحرر من الحكم الاجنبي وتحرير الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستقلال، بالرغم من ان مفهوم التحرر والاستقلال كان محدودا وغير واضح تماما و يتم بوسائل سياسية دون الاهتمام بالتغير الاجتماعي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
كان مشروع النهضة مشروعا فوقيا يستهدف النخبة السياسية والمثقفة بالدرجة الاولى وليس الجماهير الواسعة التي كانت بعيدة عن خطاب التنوير والتحديث. كما كان مشروعا جاهزا للاستيراد على الصعيد المعرفي والتقني والعسكري من اجل حماية الامة من الاحتلال والغزو الثقافي.
التعليقات