quot;طوبى للشعوب التي ليس بها أبطالquot; (الشاعر الألماني برتولت بريخت)

خرج علينا الشيخ quot; محمد حسين يعقوب quot; بتعبير سياسي جديد ما كنا لنسمع عنه لولا المهزلة التي مارسها التيار الديني بكافة أشكاله في الاستفتاءات المصرية الأخيرة، وهو تعبير (غزوة الصناديق)، ملخصاً ومختزلاً معاناة الشعب المصري الذي عانى وسيعاني من كل أشكال الوصاية الدينية والسياسية، في مصطلح يحمل في ظاهرة دلالة الرحمة الدينية، وفي باطنه يهدم كل مشروع ممكن للديمقراطية والحرية والدولة الحديثة، فمحاولة الشعب المصري أن يمارس لأول مرة دوره التاريخي في تقرير مصيره، تحولت وبقدرة قادر إلى صراع بين الخير والشر، بين فسطاط الإيمان ـ على حد تعبيره ـ وفسطاط الكفر.فطبيعة الغزوات لابد أن تكون ضد آخر يتم السيطرة عليه وفرض الهيمنة والوصاية الدينية، والآخر في هذا السياق هم بقية المواطنين المصريين.فالتيار الديني على اختلافه وخلافه قد توحد الآن لكي يُقسّم الوطن الواحد إلى فسطاطين، ويعلن بفجاجة أن الدولة الدينية قادمة ومن لا ينطوي تحت لواءها، فعليه الرحيل، صيغة تتسق مع العصور الوسطى وليس مع عالم حر حديث.
صناديق الاستفتاء أصبحت رمزاً لصندوق (بندورا)، الصندوق الذي خرج منه بمجرد فتحه شرور العالم تبعاً للأسطورة اليونانية الشهيرة، فهل هناك شراً أكثر من انقسام مجتمع لم يعتاد على قبول الآخر أو المحافظة على حقوق الأقليات داخله ؟!!، مجتمع اعتاد على أبوية سلطوية تسوقه حتى إلى الهاوية، فذهب ليستفتي على تعديلات أقرها النظام السابق، وبدلاً من أن يرفضها بحسم، أقرها بميوعة البحث عن الاستقرار الوهمي، ودوران عجلة الإنتاج التي كانت تعتصر رقبته لصالح حفنة من المنتفعين.أقرها لأنه لا يجرؤ على التغير أو التغيير فاختار أن يظل الحال على ماهو عليه حتى دستور آخر، يوضع بوصاية جديدة، بمعنى أوضح أختار ألا يختار.وأنا هنا لا أصادر على حرية أحد، ولكني أحاول تحليل ظواهر الجميع قد شارك فيها، حتى الأغلبية الحقيقية التي لم تشارك في الاستفتاء والتي تقدر بـ 27 مليون مواطن، من إجمالي 45 مليون ممن لهم حق التصويت.فالأغلبية قد اختارت أن تكون مجرد رد فعل لا أكثر، وستسلم قيادتها لصدفة الصناديق، واستبدال سلطة الأب السياسي، بأب جديد يفرض وصاية دينية.
فالمجتمعات التي لا زالت تعاني غياب الثقافة أو بمعنى أدق تغييب دور المثقف، لابد وأن تنتهي بها الديمقراطية إلى ديكتاتورية جديدة، ومنها المجتمع المصري، الذي لم يدرك جيداً أن ثورة 25 يناير قامت ضد كل أشكال البطولة الوهمية، ثورة قام بها جيل كان يعاني من أجيال متسلطة تحت مسميات مختلفة، ضد تسلطية الفرد الواحد، ضد فكرة الرمز من الأساس.فقرر المجتمع أن يحاكم الثورة بالانسياق خلف رموز استغلت جهله لتحقيق أوهام الدولة الدينية، أي إقرار بطولة كاذبة جديدة تنفي الآخر أياً كان، فعمدت إلى تشويه الدولة المدنية وتحويل المفهوم من دولة قانون تتساوى فيها جميع الأطراف، إلى دولة تبيح خلع الحجاب ومنع الأذان وغيرها من الشعارات التي امتلأت بها صفحات منشورات ومواقع التيارات الدينية المسيسة، بل أن المهزلة وصلت لمادها حينما ترتبط الموافقة على استفتاء التعديلات الدستورية بمناهضة الأقباط، أي قمع لحق الأقلية في الحياة والتعبير، فعن أي ديمقراطية نتحدث؟!!.
الأمر لا يقتصر فقط على اختزال الديمقراطية بشكل تعسفي على حكم الأغلبية الباحثة عن رمز أبوي جديد أياً كانت نسبة وعيها، ولكن المأساة تكتمل بابتعاد النخب السياسية والثقافية عن الشارع المصري البسيط، فالنظام السابق قد سلم الشارع منذ عقود للتيارات الدينية السلفية لمناهضة السيطرة السياسية للأخوان المسلمين، فأصبحت المرجعية الدينية هي الحكم الأخير في العقلية الشعبية، وأضحى من البديهي أن يتحالف الأخوان مع السلف ـ رغم تاريخ عدائي طويل ـ لتحقيق مصالح متحدة.في ظل توهم بعض النخب أنهم يخاطبون الشارع من خلال المواقع الاجتماعية من فيس بوك وتويتر، مما أسس لخطاب متعالي لا يحقق إلا مزيداً من الانفصال، وكانت النتيجة فقدان المصداقية.فالشارع المصري لن يتوحد مع هؤلاء الهابطين عليه من سماء العالم الآخر، ويترك من يفترش معه الأرض.
تصريحات (يعقوب) وغيره من رموز الحركة الدينية، أتت معبرة عن عمق تفكير أغلبية المجتمع، التي ما زالت تتعامل مع الديمقراطية بوصفها سيطرة الجموع ونفي الآخر، وعدم الاعتراف بحقوق الأقليات، مما يعطينا مؤشر عدم القدرة على التغير أو قبول الاختلاف، فبدلاً أن يكون الصراع على تقرير القانون ودولته، تحولت إلى غزوة للحصول على الجنة وتجنب النار، ثنائية بديهية يعتمد عليها الفكر الديني، ولكنها إن تداخلت مع الحركة السياسية أفقدتها قيمتها، وأفرغتها من مضمونها.والنهايات ماثلة أمام أعيننا في مجتمعات أقرت المشروع الديني، فتحول معارضيها السياسيون إلى منافقين أو كفرة ملحدين يحق عليهم القول أو الموت الذي سيكون مقدساً في تلك الحالة.
فلنخرج من دائرة البحث عن الأمان الوهمي في نماذج بالية لا تعبر إلا عن مصالحها، ولندرك جيداً أن الخطر الحقيقي على أي محاولة للتحرر و الحرية، هو انعدام الوعي والانسياق خلف سلطة أبوية أو رمز بطولي نسلمه رقابنا خشية أن نخوض مغامرة التغير التي لم نعتاد عليها لعقود، فالديمقراطية الحقة ليست مجرد مظهراً براقاً، أو صناديق ممتلئة بأوراق، وإنما ممارسة متكاملة الأركان الاجتماعية والحضارية. فرغم كل ما حدث لم نصوت بعد لأجل الحرية.

أكاديمي مصري
[email protected]