أزمات مجتمعنا المصري ما زالت تدار بنفس الطريقة القديمة للنظام السابق، الذي كان ينحي القانون وهيبته جانباً لصالح تهدئة مفتعلة لا تسمن ولا تغني من جوع، سياسة المسكنات إن جاز التعبير، خاصة عندما يتعلق الموقف بأحداث الطائفية التي تشكلت نتيجة لتاريخ مضطرب بين المسيحيين والمسلمين امتد لقرون طويلة في مصر، وليست فقط بسبب دور فلول الأمن أو النظام السابق كما يحاول البعض اختزالها.فأحداث كنسية (صول) التي تحولت إلى مصادمات دامية تشير وبشكل فج إلى أن النظام ما زال قابعاً في بنيتنا الثقافية، مهما حاولنا دفن رؤوسنا في الرمال زاعمين أن النظام قد رحل بكل رجالاته، فالنظام ليس رجال أو أشخاص.والدليل على ذلك الأسلوب الذي تم إتباعه لحل الفتنة الأخيرة، والذي يثير جملة من المفارقات الساخرة والمبكية في ذات الوقت، فهل يعقل أن يقوم نفس الرموز الدينية التي ساهمت طوال سنوات في تأجيج نيران الطائفية ـ ويشهد على ذلك تسجيلاتهم في مختلف القنوات الطائفية بطبيعة الحال ـ في حل الأزمة بين مسلمي وأقباط القرية المنكوبة، والأغرب أن يكون بناء الكنسية التي تهدمت بفعل فاعلين معلومين للجميع، تحت راية السماح والتسامح، وليس من منطلق الحق القانوني الواجب!!!.
مما قد يثر مزيداً من الرعب في قلب الأقباط، فحقهم يعتمد على الرغبة وليس القانون، ففي اتصال هاتفي مع صديق قبطي عقب جلسة الصلح العرفي المفتعلة، صرخ قائلاً : quot;إنهم يعلنون الدولة الإسلامية من صول quot;. وبعيداً عن مبالغته اللفظية، إلا أنها تعكس وبشكل واضح حجم المخاوف المطروحة والمشروعة أيضاً في العقلية القبطية المصرية، والتي لا تنحصر فقط في جلسة الشيوخ الذين حرص بعضهم على استخدام كلمة نصارى على خلفيتها الدالة بدلاً من مسيحيين أو أقباط، ولكن القضية تتسع لتشمل الحياة السياسية المصرية التي تعاني من سيولة وخلط بين الدين والسياسة في صورة مقلقة للجميع.يكفي فقط ذكر جملة الأحزاب الدينية المتطلعة إلى السيطرة على الشارع السياسي بأكمله، وتحييد أو نفي أي دور وطني، مثل حزب (العدالة والحرية) وهو حزب الأخوان الذي أعلن عن إمكانية انفصاله رمزياً عن الجماعة في مناورة سياسية تمنحه استقلالية الحركة، أو حزب الجماعة الإسلامية على كل تاريخها المثير للجدل ولكن كان للإفراج عن الرموز فعل السحر في تفعيل الدور السياسي للجماعة بعد كمون دام لعقود، وصولاً لرغبة بعض جماعات الصوفية أن تؤسس حزباً سياسياً بوصفهم الأكثر قدرة على التجميع والحشد، ولا استطيع أن أدرك كيف يتسق التصوف مع الممارسة السياسية.ورغم تصريحات كل تلك الأحزاب أنها تقبل الأقباط وكأننا أمام نادي رياضي، إلا أنها تصريحات لا تتعدى كونها محاولة استغلال الأقباط للترويج والاستغلال السياسي.
واضعين في الاعتبار ظهور التيار السلفي بشكله الجديد الأكثر فاعلية في الشارع المصري، خاصة في الأزمة الأخيرة، بعد أن قرروا الخروج من حالة الجمود للحركة المباشرة، مستغلين الكثرة العددية والقدرة على التجمهر السريع ضد أي هدف، والأهم إمكانية التلون التي ظهرت بها رموز هذا التيار لسنوات طوال، في محاولة أخيرة لاسترداد الحضور الاجتماعي الذي كان على وشك الانفلات أمام حضور الأخوان المسلمين الطاغي في الساحة السياسية.
كل تلك التحركات السياسية الدينية، كفيلة بأن تقلق المجتمع المصري بشكل عام، والكتلة المسيحية خاصة التي عانت طويلاً من محاولات الكنسية والنظام السابق بحبسهم داخل أسوار الكنسية ومنعهم من أي مشاركة سياسية فعالة، مما أضفى مزيداً من السلبية على كيان ضخم ـ رغم الاختلافات الداخلية ـ يشكل نسبة لا يستهان بها على الساحة المصرية، أمام الحضور الطاغي لمختلف التيارات الإسلامية، والتي تروج سلباً لمفهوم الدولة المدنية وربطها بالعلمانية بعد مساهمتهم العظيمة في تشويهها، وإفراغها من مضمونها الفكري والحضاري، مما يمنح مشروعية لمشروع الدولة الإسلامية الكامن في مخيلة البعض بنفي المفهوم المدني بالكلية.
مخاوف الأقباط ومطالبهم بتفعيل دور الدولة أفكار مشروعة، خاصة ونحن أمام عقلية شعبية تعتمد على مجموعة من الحكايات الأسطورية حول غرفة السحر الكامنة في كل الكنائس المصرية، أو الجيش المسيحي المجهز والذي ينتظر إشارة البدء لاحتلال مصر، أو الأسود التي ترعى في طرقات الأديرة، وغيرها من الأمور التي للأسف كان يعززها بعض أدعياء التدين، مما أضفى على الحكاية مشروعية الحقيقة.فعقليتنا الشعبية للأسف لا تتمتع بأي إمكانية لقبول الآخر والتفاعل معه، بسبب ما تتسم به من عنصرية وفئوية تؤسس لجهل أصيل، ليس جهل التعلم أو التعليم، ولكن جهل المعرفة والمناقشة والقبول بالاختلاف كبديهية إنسانية.
وبالتالي يصبح القانون ومحاسبة الجناة هو الحل الوحيد الذي لا بديل عنه، فرغم ما قد تمثله قوة القانون من حسم لا يُرضي العديد من الأطراف المتصارعة، إلا أن الحسم القانوني وهيبة الدولة من المطالب الأساسية التي انتفض بسببها المصريون، وإلا ستذهب كل التضحيات أدراج الرياح.فمن المؤكد أن الثورة لم تستهدف بشكل مباشر الجدل الدائر حول أسبقية الانتخابات الرئاسية أم البرلمانية، ورغبة كيانات الإسلام السياسي في السيطرة على البرلمان، وبالتالي مد النفوذ إلى الدستور، ثم السيطرة على كل مقدرات الدولة.أو مطامع بعض من عينوا أنفسهم قواد للثورة في الانتخابات الرئاسية لقطع الطريق أمام طامعي البرلمان، أو عقد صفقات تحتية بين هؤلاء وأولئك تصب في مصالحهم بعيداً عن مصالح الوطن بمعناه الأشمل، وكل أشكال الميوعة والفوضى السياسية، مما يعكس صراعاً حول السلطة لا الشرعية التي عانى وطننا طويلاً من غيابها أمام سطوة المنتفعين وأصحاب المصالح.ونحن الآن نعمل على خلقهم من جديد بوعي أو بدون.
أمام القانون والشرعية وهيبة الدولة تتساوى كل الأطرف، أقباط ومسلمين وملحدين، الوزراء والغفراء، الجميع سواسية بلا فروق أو تفريق، دولة المواطنة التي أصبحت يوطوبيا العصر الحديث.فلنخرج جميعاً من عشوائية الفكر، وفوضى السياسة، لتحقيق الحلم خشية تحوله إلى كابوس يجسم على نفوسنا لعقود طويلة قادمة، وقانا الله شر الفتن والانقسام ومطامع الطامعين.
أكاديمي مصري
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات