يرد في كتب التشيع المعتبرة عن الإمام (جعفر الصادق)، أن يوم (النوروز) يوافق يوم (غدير خم) ـ الذي بايع فيه النبي علي بن أبي طالب بالخلافة من بعده كما يرد في السياق الشيعي ـ وهو يوم انتصار علي على الخوارج في معركة النهروان، وهو يوم عودة الإمام المهدي، وكان خلق آدم من نور الأئمة في هذا اليوم كذلك، وفيه ستكون نهاية العالم.ومن العادات المتبعة في هذا اليوم في إيران زيارة قبور الموتى والدعاء لهم، وأضرحة الأئمة والتبرك بهم.
فالعقلية الإيرانية مزجت بين السياق الأسطوري والديني المذهبي حينما اختارت أن تنطوي تحت رداء التشيع، أو تطويه تحت جناحها، فمعظم الكتابات الأصيلة في التشيع اعتمدت على الفترة الصفوية في بداية القرن التاسع الهجري، حينما تحولت إيران رسمياً إلى المذهب الشيعي، وحاول حكام المرحلة الصفوية أن يمنحوا التشيع كمذهب ديني أصوله القومية الإيرانية، حتى يسهل نشره أو انتشاره، أي تحويل الأسطوري إلى ديني، وبالتالي إلى سياسي مقدس، ترسخ في الوجدان الجمعي بوصفه الحقيقة المطلقة التي لا فكاك منها.
فالـ (نوروز) عيد إيراني أصيل، يجسد بداية الكون في الفكر الزرادشتي، وانتصار إله النور (أهورامزدا) على إله الظلام أو شيطان العدم (أهريمن)، وفي مرحلة تالية على الفكر الأسطوري المطلق، كان النوروز أو النيروز، مرتبط بإعادة بناء العالم على يد الملك الإيراني (جمشيد) الذي أوكل له الإله بناءه بعد خرابه على يد الشيطان.فهو عيد قومي بامتياز يليق بالحضارة الإيرانية .ولكن طبيعة العقلية الإيرانية ترفض الانتماء لغير ذاتها، وبالتالي رفضت الأصول العربية للتشيع، وحولته إلى سياق فارسي تتوحد فيه قداسة الأسطورة بقداسة الدين.فالإمام علي زين العابدين (السجاد) الإمام الرابع، كان نتاج زواج الحسين بن علي، من ابنة (يزدجر) أخر ملوك الفرس الساسانيين، كما ورد في العديد من الحكايات المذهبية الإيرانية.فكل أصول التشيع قد تم تفريسها، لتتسق مع الذاتية الإيرانية التي ترفض التبعية للأخر أياً كان، حتى وإن كان عربياً إسلامياً.فمجرد تبني السياق الإيراني للمذهب الشيعي، ما هو إلا محاولة لاحتواء سياق انفصالي معارض ضد السيطرة العربية السنية المتمثلة في الحكومات العربية المتتالية من أموية أو عباسية.
القضية لا تقف عند حواف المذهب، وإنما تنسحب إلى عمق الأفكار الفلسفية المؤسسة للتشيع، فكما في الزرادشتية أن العالم مخلوق من النور الإلهي الذي فاض ليخلق الوجود بأكمله، ويثبت في العناصر الأساسية للكون، أمام الزحف الظلامي للشيطان، كان التشيع الذي أسس خلق الكون على فكرة نور الأئمة، فنور العرش الإلهي من نور النبي محمد، ونور الملائكة من علي، ونور السماوات والأرض من نور فاطمة، ونور القمر من الحسن، والجنة وحور العين من الحسين.كما ورد أن أول ما خلق الله كان الأئمة الإثنا عشر وفاطمة والنبي، فكان نورهم يسكن أسفل العرش، منهم خلق الكون بأكمله، بل أن آدم ذاته مخلوقاً من المزج بين نور الأئمة والطين، ويظل هذا النور متوارثاً في أصلاب الأولياء وصولاً للأئمة على المستوى التاريخي، أي أن التجسيد التاريخي للأئمة لم يكن إلا لحظة واحدة لا تعبر عن خلود أنوارهم قبل الوجود بأكمله.بل أن التأويل الشيعي للآية القرآنية : ( يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين) (سورة ص آية 75)، اعتمد على إجابة النبي عن العالين قائلاً: (أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين كنا في سرادق نسبح لله، فسبحت الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام) .
فكرة انتقال النور تلك نجدها واضحة في الزرادشتية، فأصل وجود زرادشت، اعتمد على انتقال النور الإلهي جيلاً بعد جيل وصولاً إلى رحم أم زرادشت، ليتجسد فيه ويستمر بعده وصولاً لأحفاده، الذي سيخرج منهم المهدي المنتظر أو المخلص الزرادشتي في نهاية الزمان ليحكم بالعدل وينهي المظالم التي حكمت العالم.فالمفاهيم المقدسة قد توحدت في العقلية الإيرانية مسقطة التتابع التاريخي الذي أنتج الأسطورة التي كانت ديناً قديماً، وبين التشيع الإسلامي الذي تحول إلى أسطورة حديثة.خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنه رغم الاضطهاد الذي تعاني منه الأقليات الدينية مثل البهائية أو المذهبية مثل السنة في إيران، تظل للزرادشتية مكانتها في المجتمع الإيراني، فمازالت العقيدة مستمرة وحاضرة، سواء على المستوى السياسي ووجود ممثلين للزرادشتية في البرلمان، أو السياق الديني وحضور المعابد القديمة حية بحضور الطائفة الزرادشتية فيها، وممارستها لكل حقوقها الدينية كاملة.أي أن الفكر الإيراني قد رفض التخلي عن أصوله الدينية المقدسة رغم السياق الإسلامي الذي يمثل شعار الجمهورية الدينية.
تلك السمة الأسطورية نجدها حاضرة في بعض العناصر المقدسة المتشابهة بين الزرادشتية والتشيع، فمثلاً، يرد في التشيع أن الشمس قد كُسفت يوم مقتل الحسين دليلاً على حزن الكون على زواله من الأرض، وأن دمائه قد صعدت نوراً إلى السماء، أي إلى الأصل المقدس الأول، وأنها سوف تشتعل يوم عودة المهدي، وفي بعض الحكايات أن الشمس قد توقفت ذات مرة حتى يؤدي علي صلاة العصر التي فاتته.أي أن الشمس بوصفها عنصر الضياء الأول تمثل قداسة ما في الفكر الشيعي، تلك القداسة حاضرة بقوة في الزرادشتية وفي العقلية الإيرانية بشكل عام، فالشمس هي التي تطهر الكون من الدنس الشيطاني، وهي التي تحفظ النور الإلهي المقدس في أجساد العائلة الزرادشتية المقدسة وصولاً للمخلص الأخير، وأن الكون سوف يفنى حينما تنكسف الشمس والعودة إلى حالة الظلمة الأبدية.فالعقل الجمعي الإيراني قد منح الأسطورة لتاريخ الأئمة لكي يزيد من قداستهم ليس فقط على المستوى المذهبي الشائع ولكن في المخيلة الرمزية الثابتة.
فلكي ندرك طبيعة الشخصية الإيرانية في تعاملها مع العناصر المقدسة، لابد أن نرصد العلاقة بين الأسطوري والتاريخي، أو السياسي بتجلياته الحديثة، فدائماً يحتمل السياسي أن يكون أسطورياً ـ مقدساً في العقلية الإيرانية، فالحكومة الصفوية استتب لها الوجود بعد أن تمكنت من إنتاج المقدس السياسي، ليس فقط على المستوى المذهبي، ولكن على المستوى القومي الأسطوري كذلك.والحكومة الإسلامية الحديثة ألبست رجال الدين ثوب السياسة، لتحول مسار التشيع كمذهب ديني، إلى التشيع الإيراني، فأعطت انطباعاً عاماً أن الدين لابد أن يكون إيرانياً عرقياً بعيداً عن أي سياق أخر أكثر منطقية واعتدالاً قد أنتجه التشيع.بل أن الترويج للتشيع كمذهب ديني في الأوساط العربية يعتمد على السمة الإيرانية، التي تتسم بالمبالغة في تمجيد الأشخاص وتقديس الأفراد، المتسقة تماماً مع فكرة عبادة الذات القومية.
فما رصدناه من عناصر تشابه بين الأسطوري والمذهبي لا يهدف بشكل رئيسي نفي التشيع من سياقه الديني، أو محاولة نزع أقنعة القداسة عن مذهب له متبعيه ومريديه، ولكن الهدف هو إضاءة الجانب الحضاري المظلم في الفكر الإيراني، فما نلاحظه من تقديس لأفراد، أو استغلال سياسي للرموز التاريخية للتشيع، أو الغضب الإيراني من تصريحات (حسن نصر الله) التي نفت قومية إيران أمام إسلاميتها، له ما يبرره على السياق الحضاري الإيراني الذي يُعلي من الذات القومية أمام أي أخر مذهبي أو عرقي.

مراجع
بحار الأنوار :محمد باقر المجلسي.
فلسفه زردشت( ديدي نو از ديني كهن) : د.فرهنگ مهر
آيينها وجشن هاي كهن در ايران امروز: محمد روح الأمني.
كربلاء بين الأسطورة والتاريخ (دراسة في الوعي الشعبي الإيراني):د.أحمد لاشين

أكاديمي مصري
[email protected]