تعتمد السياسية الإيرانية في بنيتها على وجهين، يُظهرا ثنائية الخطاب السياسي أكثر من تناقضه، فدائماً ما تفاجئنا التحركات الإيرانية بردود فعل عكسية حول القضية الواحدة، وإن بدا هذا محيراً للوهلة الأولى، ولكنه يأتي متسقاً تماماً مع طبيعة الشخصية الإيرانية التي تمتلك أدوات المراوغة والتضليل أحياناً، لتحقيق منافعها وأهدافها الخاصة، غير عابئة بما قد تتورط فيه خاصة مع ذهنية أحاديه مثل الذهنية العربية، أو آلية واضحة في الطرح كما العقلية الغربية على اختلافها.فالشخصية الإيرانية قادرة على صنع حالة من الالتفاف الكامل حول أي قضية قد تفقد السيطرة عليها.
فإيران تتلاعب بالملف النووي بما يحقق لها تواجدها ونفوذها على الساحة الإقليمية، ويثّبت أقدام النظام على الساحة الداخلية، فنجدها أحياناً تطلق تصريحات شديدة اللهجة ضد الولايات المتحدة والغرب، ثم تعاود لتطرح القضية على مائدة المفاوضات من جديد، في محاولة لكسب وقت يصب مباشرة في صالح الملفات الداخلية.فرغم تصريحات الرئيس الإيراني النارية ضد دول الاتحاد الأوربي وأمريكا بشكل خاص، يرسل لبابا الفاتيكان بندكتوس السادس عشر منذ ما يقرب من شهر رسالة يشكره فيها على موقفه من أزمة حرق المصحف التي أثيرت مؤخراً في الولايات المتحدة، رغم أن الفاتيكان لم تكن الوحيدة التي اعترضت على ما أعلنه القس جونز من رغبته في حرق المصحف، فمعظم الكنائس سواء الإنجيلية أو الأرذوثوكسية قد أعلنت نفس حالة الرفض والإدانة.ولكن نجاد اختار أن يغازل الكنسية الكاثوليكية، في محالة للالتفاف على موقفه المتشدد من الاتحاد الأوربي، وليخاطب أكبر نسبة مسيحية في العالم بشكل عام.وليُظهر إيران بوصفها المتحدثة باسم الإسلام المحافظة على الهيبة القرآنية، معلناً في خطابه أن العدو الأول والمشترك بين الإسلام والمسيحية هو العلمانية، التي أدت إلى ذلك التفكير المادي المجحف للدول الغربية ـ على حد تعبيره ـ فافتقدت إلى كل معاني الإنسانية التي تجسدها كل الأديان، فعلى الفاتيكان وإيران أن تغير وجه العالم الظالم.
وصلة الغزل تلك لا تقف عند هذا الحد، بل يقابلها رد الفاتيكان الذي تصدر الصحف ووكالات الأنباء الإيرانية يوم الجمعة (12 / 11)، حيث أرسل البابا بندكتوس خطاباً يُسلم إلى الرئيس نجاد، بصحبة وفد من الفاتيكان، يؤكد فيه أن المسلمين والمسيحيين عليهم أن يعملوا على النهوض بالروح الإنسانية في العالم ضد التوجهات اللادينية.وأن هناك ما يقرب من عشرة آلاف كاثوليكي يمارسون دينهم بحرية في إيران.رغم أن رد البابا لم يغفل أزمة دور العبادة الكاثوليكية التي تتسم بقلة العدد أمام نسبة المسيحيين الكاثوليك ـ والكاثوليك فقط بالطبع ـ ولكنه على يقين بأن الحكومة الإيرانية ستعمل على حل تلك الأزمات.
ثم التقى وفد الفاتيكان بمراجع الشيعة في قم، وعلى رأسهم (آية الله جواد آملي)، و(وآية الله يزدي)، وهما من المعروفين بتشددهم ودعمهما الدائم لنجاد في مختلف أزماته.ورغم إشارة الوفد أن المسيحية تفصل بين الدين والسياسة، وأن هذا الأمر هو مكمن الخلاف بين الإسلام والمسيحية، إلا أن آية الله يزدي ألح في المقابل على أن الكنسية والمسجد لابد أن يكونا منبراً للتربية الاجتماعية حتى لا تشيع المادية وانعدام الأخلاق الإنسانية والدينية بين الناس.في محاولة لصبغ الزيارة ذات المرجعية الدينية بصبغة سياسية، تلك السمة التي أكد عليها آية الله جواد أملي، في حديثه عن وجوبية أن تقف الكنيسة ضد الانتهاكات الدينية والإنسانية التي تمارسها الولايات المتحدة في العراق وأفعانستان، وألا تقف مكتوفة الأيدي أمام القتل والظلم الواقع على الشعوب بمختلف ديانتها ومذاهبها.بسبب اللادينية المتفشية في العالم.
ورغم أن رسالة بندكتوس احتوت على تلميحات للتميز الديني الذي تمارسه بعض الحكومات ضد الكاثوليك في الشرق الأوسط، إلا أنه لم يذكر إيران صراحة.مع أن الكاثوليك يعانون مثل بقية الأقليات الدينية في إيران، فمنذ بداية الثورة الإسلامية، أُجبر العديد من المسيحيين على ترك إيران ومغادرتها إلى أوربا أو الولايات المتحدة، كما هُدمت العديد من الكنائس.وفي تقارير منظمة حقوق الإنسان أن عدد الكاثوليك في إيران يصل إلى 19 ألف، بمختلف طوائفهم، من أرمن كاثوليك، أو الأشور الكاثوليك، أو غيرهما.ورغم ذلك لا يتجاوز عدد الأساقفة أربعة، وعدد الراهبات واحد وعشرين، وكذلك عدد الكنائس لا تكفي من حيث النسبة إجمالي عدد المسيحيين، كما أن الموقع الجغرافي للكنائس يُحمّل متبعيها مشقة الانتقال والسفر بين المحافظات في ديانة تعتمد على الكنسية بشكل مركزي ليس فقط في الشأن الديني ولكن في مختلف الأمور الاجتماعية.هذا بالإضافة إلى الحالة السيئة التي عليها الكنائس فأغلبها أصبح على وشك الانهيار.وكذلك استبعاد المسيحيين من أي منصب إداري في الدوائر الحكومية.وإن كانت هذه القضية يشترك فيها السنة والبهائيون وغيرهما من الأقليات الغير إيرانية الجنس أو شيعية المذهب.
وكما هو معلن في الصحف الإيرانية، فقط تم إلقاء القبض على جماعة أرمينية مسيحية بتهمة التبشير بالمسيحية في الجامعات الإيرانية، وكذلك فصل أستاذ جامعي بنفس التهمة من إحدى الجامعات الإيرانية.أي أن هناك حالة تضييق قد يعاني منه المسيحيون في إيران.ومع ذلك كل ما يهم بندكتوس أن يتم الاعتناء بالكنائس فقط لا غير.
ورغم أن الفاتيكان كانت من أوائل من نددوا برجم (سكينة أشتنياني) والتي ما زال الحكم برجمها معلق للأن، أي أنها اعتبرت أن ممارسة فعل الرجم متجاوز للحدود الإنسانية بشكل عام، ولكن استجابة لمحاولات الغزل الإيراني، تنازلت عن الأبعاد الإنسانية، لمصالح قد لا تنالها في المنطقة العربية، أمام الدعوة الإيرانية الشيعية متغافلاً أن حركات الإسلام السياسي تمثل الخطر الأشد على مصير المسيحية وغيرها بشكل عام، وأن إيران مجسدة لهذا التوجه السياسي الديني بامتياز.كما أن مسايرة دولة دينية في موقفها الرافض من العلمانية يُعيد للكنسية تراثها الدموي القديم في أوروبا، وينقلها إلى فترة حضارية قديمة في الصراع بين العلمانية والدين ما زلنا على أعتابها في منطقة الشرق الأوسط.فإن كان التلويح بفزاعة العلمانية كما تحاول إيران يصيب شعوبنا بالقلق، ويلقيها مستسلمة في أحضان كل من يحمل شعار الخلاص الديني، إلا أن تلك الفكرة برمتها تُعتبر تراثاً في التاريخ الكنسي الأوربي.
ورغم ما يجسده العمق الفكري بين المسيحية والتشيع من مساحات تلاقي واتفاق، إلا أن المزايدة الدينية التي يراوغ بها نجاد في الداخل المسلم والخارج المسيحي، وكذلك رغبة الفاتيكان في استغلال نفوذه في أرض ظلت مغلقة لسنوات تحت راية الثورة الإسلامية، لا يمثل ذلك العمق بشكل مباشر.فالأمر لا يتعدى محاولات إيرانية لاستقطاب الكنسية العالمية الأم وبالتالي الاستفادة من نفوذها الروحي لتحقيق مكاسب سياسية شعبية يتوهم النظام الإيراني أنه قادر على تحقيقها في أوروبا كما حققها في البلاد العربية.

أكاديمي مصري
[email protected]