جرت العادة لدى بعض المجتمعات في العصور القديمة أنه بموت الملك أو بزوال السلطة بأي شكل كان، تُترك البلاد في حالة فوضى كاملة لفترة من الوقت دون قانون أو شرعية أو أمن، يعم فيها السلب والنهب والقتل والانتقام، لدرجة قد تفضي إلى فناء المدن، وبعد مضي أيام الموت تلك، يُعلن عن اسم الملك الجديد، النظام الجديد إن شئنا التعبير، ليدين له من تبقى على قيد الحياة بالولاء المطلق..وتنتهي أيام الفوضى.خدعة تمارسها النظم منذ قديم الزمان، حتى لا تصطدم بأية مقاومة أو معارضة تهدم طموحات أحد الطامعين في السلطة، في رهان شبة أكيد على غوغائية العامة وعدم قدرتهم على إدارة البلاد في حال رفع يد النظام عنهم، والتي ستلعب دور الرحمة المنزلة من السماء حينما ينتهي صراع القصر على السلطة وامتلاك مقدرات الشعوب.
الديمقراطية وحلم الحرية، أفكار قد تبدو مثالية حال تطبيقها على مجتمعات منهكة لعقود طويلة تحت ظل الاستبداد الثقيل، والفساد الكامن في بنية النخب والعامة ـ ألتمس العذر فهذا الفصل أصبح واجباً الآن ـ فالنخبة المثقفة للأسف لازالت تعاني انقسامها التاريخي منذ ما يقرب الخمسين عاماً، بين موالٍ للسلطة بتعدد أشكالها النظامية ومنتفع سعى جاهداً أن يتلمس مصالحة الخاصة والخاصة جداً فوق وسائد الزعماء والرؤساء والقادة، وبين مهزومين تم قهرهم في المعتقلات أحياناً تحت أحذية العسكر أو تحت ركام أفكار كلاسيكية بالية غير صالحة للاستهلاك الآدمي، وهؤلاء إما قرروا الهروب إلى العالم المتحضر فخاطبوا عالمهم الأصلي بفوقية وانفصال عن الواقع المتردي، أو انسجموا مع حالة المظلومية على المقاهي.وتبقى فصيل ثالث للأسف أصبح هو صاحب الكلمة العليا في الظروف الراهنة، وهم جماعة ممن احترفوا الفشل لسنوات طوال، ولكن نتيجة لغياب أو تغيب أي صاحب فكر أصيل، وفراغ الساحة الآن من كل من يتحدث بعين العقل، ظهر هؤلاء ليداعبوا أوهام العامة وغرائزهم، ويتحدثوا بدلاً عنهم، محتمين بنقاء المرحلة الثورية في بدايتها، فكيف يمكن أن تتم ديمقراطية متكاملة الأركان في ظل وضع ثقافي متردي ومنهار بالكلية.وإن كان هذا هو وضع المثقفين ضمير الأمة، فما حال بقية النخب السياسية والإدارية بمفهومها الشامل!!.
الديمقراطية تعني في جانب أصيل منها، احترام حقوق الأقليات والأفراد على اختلافهم وتخلفهم أحياناً، بل والسعي بدأب حقيقي لحصول كل فئات المجتمع على نفس الحقوق في ظل حالة فكرية تستدعي في البداية احترام الآخر المختلف بطبيعة الأمر، في ظل دولة القانون.يعني أن الديمقراطية لن تتحقق إلا حال تحقق دولة القانون في البداية، وليس العكس، فصناديق الاقتراع أو الانتخاب أو غيرها، تعكس الوضع الاجتماعي وتعبر عنه، ولا تصنعه أو تخلقه من العدم.وبالتالي في مجتمع مفعم بالفساد وانتخابات كانت تُقاد بأموال الحزب الوطني، ستكون أي انتخابات معبرة عن هذا المجتمع، خاصة مع بقاء نفس الرموز في أمكانها، وترسخ الفساد في ذهنية العامة وسلوكهم، الذين في قمة تحضرهم يحصرون معنى الثورة والديمقراطية في لقمة العيش أو زيادة الرواتب أي انتظار ما لا يجئ...فشعب كان يتعامل مع البرلمان بوصفه مركز خدمات، هل من المعقول أن يتعامل معه الآن بوصفه مجلس تشريعي يحافظ على حقوق المجتمع ككل، ويؤكد على دولة القانون، دون تفرقة أو تفريق !!!!.ففي حوار دال سمعته في أحد المقاهي دار بين أربعة أشخاص، بدأ بسؤال أحدهم عن الديمقراطية، فأجابه الثاني : الديمقراطية هي إذا اتفق ثلاثة منا على شيء على الرابع أن يطبقه بلا نقاش.وبعد فترة صمت ينطلق الثالث:وإذا اتفق ثلاثتنا على أننا لن نطبق الديمقراطية؟!!، فصمت الجميع في حيرة.
طبيعة الثورات في عمقها أنها ضد الديمقراطية بشكل أو بآخر، فالثورة تقوم ضد نظام فاسد أو حاكم مستبد، وهذه بديهية، ولدى انتصارها فإنها تستمد شرعية مقدسة تساندها فيها الشعوب التي تنفست الحرية لأول مرة بعد عقود الظلام، فتصبح الشرعية مع الوقت ملك للجميع، وتتحول الثورة إلى محاكم انتقامية دموية يقودها العامة كما حدث في الثورة الفرنسية، أو إلى محاسبات خطيرة تأخذ العاطل بالباطل كما حدث في مصر أثناء الانقلاب العسكري 1952، أو يحدث الآن بشكل ما، بمعنى أن الشرعية الثورية تعبر عن مرحلة تصفية الحسابات مع مختلف العناصر المختلفة تحت شعار السعي لتحقيق الديمقراطية.ثم تعم الفوضى العارمة على كل المستويات السياسية والاجتماعية، وحين تعاني المجتمعات من تلك الفوضى أمامها طريقين إما أن تختار الإطار القانوني الديمقراطي الذي أرجوه، أو تنتهي كما كانت تنتهي المجتمعات القديمة بالرضوخ إلى أقرب حل يدعي الحرية ويحمل في باطنه عذاب ديكتاتورية جديدة، وهنا تكون الكارثة حيث تنقلب الثورات ضد أصحابها.وأنا هنا لا أبشر بالفوضى أو أُدين تلك الشرعية الثورية التي من الطبيعي أن تكون لها دورة حياة متكاملة، ولكني أدعو إلى الانتقال المباشر إلى العمل السياسي المنظم، والسعي لتحقيق دولة القانون بدلاً من محاربة رموز ستزول تلقائياً حال تحقق شرعية الدولة.
وفي ظل حالة الهرج السياسي وغياب أو تغيب شرعية القانون، تخرج علينا جماعات التدين السياسي في إدعاءات الديمقراطية والحرية والمساواة، وبعيداً عن الممارسة السياسية لتلك الجماعات خاصة الأخوان المسلمين التي تثبت عكس ذلك تماماً حتى لا يتورط البعض في الدفاع البريء أو المغرض تحت طائلة أن الأخوان كانوا مجرد رد فعل على قمع النظام، فإن البناء الفكري التأسيسي لفكر الجماعة يرتبط بالدولة الثيوقراطية الدينية، يعتمد على نظام تراتبي يبدأ من مرشد ويصل إلى الفرد العادي الذي يعتبر تبعيته للمرشد الأعلى واجب ديني، وهذا سعي الأخوان طوال الثمانين عاماً الماضية، وبالتالي لا وجود لما يمكن تسميته بدولة القانون أو حكم المجموع، فلا حكم إلا لله، وبالتالي ستكون تلك الأحزاب الجديدة ما هي إلا شكل آخر من أشكال التحايل التي يفرضها الوضع الجديد، حتى تصل على أكتاف الأخريين إلى قمة الهرم السلطوي، فتتمكن وتطبق تلك القناعات القديمة الجديدة، فمن المستحيل أن يُبدل التيار الأخواني أفكاره الراسخة الآن، خاصة وأن الأخوان أول من جنى ثمار الثورة بداية بإلغاء الحظر وصولاً لحرية الأقطاب الاقتصادية من المعتقل.
فالساحة السياسية خالية الآن من أي تيار ديني آخر، خاصة بعد الخسارة السلفية الفادحة، والتي قرر شبابها أن يتحولوا من السلفية الدعوية الشهيرة، إلى السلفية الجهادية التي تحقق المكاسب بشكل أسرع في الظروف الراهنة.وكذلك سلبية الأقباط المصريين وانتظار ما يجئ في رد فعل اعتادوه لقرون، ففي المقابل لم يخرج أي ناشط سياسي مسيحي لتأسيس حزب يضم مثلاً عناصر الأقباط على خلفية دينية كذلك، طالما الساحة منفتحة للجميع الآن، ولكن انعدام الجرأة وانتظار أن يحقق غيرهم ما يتمنوه، ومزاعم الدولة المدنية وغيرها من التوجهات الأصيلة في البنيان القبطي، جعلتهم خارج الخدمة.
وفي ظل حكم عسكري قرر أن يترك لنا السلطة قبل ستة أشهر، كفيلة بتصفية حسابات تاريخية مع أجهزة الأمن، عن طريق استخدام الفساد الأمني والغضب الشعبي، مع حالة مراوغة وتباطؤ في وضع دستور جديد أو تحديد ملامح واضحة للانتخابات القادمة، مما قد يعطي انطباعاً بعدم الجدية أحياناً.وقد يزيد من الأمور سوءً إن لم نشرع مباشرة في الخروج من دائرة الانتقام إلى ساحة الفعل الحر الحقيقي، وأن تُعطي الثورة شرعيتها إلى القانون بكل أشكاله التشريعية والتنفيذية، حتى يتحقق الحلم كاملاً.
النظام يا سادة ليس فرداً أسقطناه، أو رئيساً خلعناه، وأشخاص كانت تتبع فساده نقاتلهم حيث نثقفهم فقط، وإنما النظام كيان متكامل الأركان، نحن جميعاً شركاء فيه للنخاع، فلا يدعي أحد الطهر والنقاء، ولا يزايد على الآخر، فالكل متورط في خيانة هذا الوطن إما بالصمت أو بحق الانتفاع المباشر، بداية من شعب تواطأ على نفسه لعقود طويلة، وصولاً لأصحاب الحناجر التي تزعق ليل نهار مدعين مثالية ثورية مضحكة لا تليق بهم.
فالشرعية ليست في ميدان التحرير فقط وإنما كذلك في البيوت والشوارع وعلى المقاهي وفي عيون أطفال يرون الغد في عيوننا، فلنخلق لهم عالم يليق بهم وببراءتهم، عالم يحكمه القانون والعدل والحرية.


أكاديمي مصري
[email protected]