التحرير...حالة وجد سجد أمامها العالم في خشوع يليق بميلاد مخلص جديد، فالخلاص لم يعد مجرد فكرة ننتظر أن يهبها لنا الغيب في مستقبل بعيد لا ملامح له، بل صُنع بواقعية تليق بأرض التحرير، متجاوزاً كل التيارات السياسية والفكرية، فأغلب من سكنوا الميدان لا يدركون الفروق بين مختلف الأيدلوجيات التي تسببت في انهيارات عديدة بعد ركود سياسي دام لعقود، فالجميع قد اتفق بشكل غير معلن على تشكيل دولة متكاملة الأركان تؤمن بوجود الأخر أياً كانت ملامحه خارج حدود الميدان.
القضية لا تتلخص في نظام رحل ورئيس انهار بعد عقود من التأليه، لكن الأهم والأجمل قدرة شعب بالكامل أن يبدع في أقل من عشرين يوماً ما اعتقدنا أنه مستحيل، فكل مظاهر المجتمع المصري قبل ثورة يناير كانت تشي بانهيار كامل، فتن وطوائف وفرق، وكل يغني في سربه ولا يسمعه الآخرون، تجمعات فئوية مغلقة، وأفكار منغلقة كان يراهن النظام عليها، بل أنه ساهم فيها بامتياز، مستغلاً رغبتنا في تكوين مجتمعات منفصلة ليظل هو الإله الأوحد للأقاليم المصرية. فلا ترحلوا من ميدان التحرير، أو احملوه معكم إن استطعتم، فما تحقق هناك ثورة اجتماعية بكل المقاييس، فالدولة الجديدة التي تحملت كل الأطياف بعقد اجتماعي فريد وجديد، لابد أن تستمر، فلن نكتفي بأن نحكي عنها لأولادنا، أو أن نقررها عليهم في كتبهم الدراسية، بل عليهم أن يعيشوه إلى المنتهى، ليستكملوا الحلم للنهاية.
فرغم كل الانقسامات الداخلية في الميدان بين مختلف التيارات الفكرية أو السياسية، والتي مثلت خطورة في مرحلة ما، إلا أن مشروع الدولة الجديدة احتوى أي انفصال ممكن، بل وأضفى مشروعية جديدة على الاختلاف وحوله من صراع إلى حالة صحية متكاملة الأركان.فثورة الشباب لم تتجسد فقط في ذوي التوجهات الليبرالية أو الحديثة، بل تجاوز ذلك إلى شباب التيار الديني، الذين اختبروا شيوخهم فانكشف زيفهم وذاتهم المتضخمة وعبثهم بمقدرات وطن كان يعاني من أحادية في الرؤية ساهم فيها التيار الديني والنظام السياسي على السواء.فالثورة الجديدة هي ثورة جيل على أجيال رسخت داخلنا الخنوع وعدم الرغبة في التغير.فالحقيقة الوحيدة الثابتة الآن هي دولة الميدان التي أعلنت عن وجودها تحت شعار quot;لا عسكرية ولا دينيةquot;.
الشارع المصري الذي شعر ولأول مرة أنه حر، فخرج بعد بيان التنازل ليحطم كل قيود الصمت، يثبت أنه كان متضامناً بكل عناصره مع الثورة الجديدة حتى وإن كان تضامناً سلبياً، ولا أستطيع أن أتخيل وجه الرئيس السابق مبارك الذي خرج علينا ذات يوم بنظرة نارية ووجه يقطر منه الغضب ليعلن أنه باقِ لأبد الآبدين، وهو يشاهد ابتهاج شعبي أصيل بيوم رحيله، والأهم رحيل كل أنظمة الاستبداد والفساد، وقد ساعدهم على ذلك شعار كان يرفعه شباب اللجان الشعبية على خطورته وهو: quot;من النهاردة مفيش حكومة أنا الحكومةquot;، (والحكومة تعني وبشكل مباشر في العقلية الشعبية المصرية جهاز الشرطة)، صحيح أن مخطط تسليح الشعب المصري كان يشي ببداية الفوضى، بعد غياب النظم الأمنية على تعددها، خاصة إذا مددنا الخيط لنهايته، وتخيلنا أن تلك اللجان الشعبية قد تحولت إلى قيادات متكاملة ثم قررت الاستيلاء على المراكز الحيوية للدولة، لتعود مصر إلى عهود الظلام، فذلك كان سيناريو الفوضى المُعد مسبقاً من قبل التيارات المنظمة التي كانت تجوب الحارات والشوارع توزع مخططاً متكامل الأركان لهدم مفهوم الدولة من الأساس.و رغم سلبية هذا السيناريو إلا أن قدرة الشعب المصري أن يتخلى عن مفهوم السلطة والحماية المفتعلة التي كان يفرضها النظام، جعله أكثر ثقة وقوة، فلن يعد رجل الشارع يسمح بعد الآن بأن يكون مستغلاً من قبل نظام أو سلطة أياً كانت ملامحها.
فدولة ميدان التحرير قد خلقت حالة من النظام والتناغم الداخلي، سيكون لها صداها في كل المجتمعات المحيطة، فالجزائر اليوم، وسوريا وإيران غداً، وغيرهما الكثير، واستطيع أن أخبركم الآن بالتفاصيل التي ستكون متشابه إلى حد بعيد، فالأنظمة العربية يبدو أنها خرجت جميعاً من قمقم واحد، قمع أمني ثم تحرك شعبي، فتحركات احتجاجية واعتراضات دولية تنتظر المهزوم، ثم رحيل أو هروب أو تنازل، أي انهيار لنظام قديم، ويتصاحب ذلك مع أطماع بعض التيارات الدينية والزعماء السياسيين المهزومين من الأساس منذ عقود، سيناريوهات متشابه لمجتمعات مأزومة، ورؤساء وزعماء يختفون فجأة وكأنهم لم يكونوا يوماً، وكأننا كنا نعيش تحت ثقل الوهم.
من يسير في القاهرة الآن سيرى وجوهاً مستبشرة، وعيوناً رغم سعادتها، محملة بالعديد من التساؤلات عن المرحلة القادمة، عيون اعتادت أن ترى وجهاً واحداً طوال عقود، فتناسيت أن تسأل نفسها سؤالاً كان يبدو بديهياً عن مصير منتظر سيحدث بزوال النظام بالموت أو القتل أو الرحيل، فقد اعتادت عليه لدرجة التوحد معه، فالدولة المصرية الآن تمر بمرحلة انتقالية خطيرة، حتى مع وجود صمام الأمان العسكري، فهو في حد ذاته من ضمن مخاوف الشارع المصري التي يحاول أن يتجاوزها في هذا التوقيت على الأقل، فهل سينتهي بنا الأمر إلى حكم عسكري جديد، أم إلى فوضى سياسية مرعبة!!، أسئلة مشروعة تشغل المخيلة المصرية. والأمان الوحيد الآن الذي ارتكن له المصريون هو دولة التحرير، التي أثبتت أنها النموذج الوحيد الصالح للتطبيق، إن تمكنا من توسيع دائرته ليشمل الدولة المصرية بكل أشكالها.
فالنظام الذي سقط اسقط معه كل أقنعة الزيف التي كنا نتوارى خلفها وخلف رموزها منذ عقود، والمفترض ألا ننتظر مخلص جديد يأتي لنا بالعسل والخبز من سماء بعيدة أو يعدنا بجنة موعودة، فكل مفاهيم البطولة الفردية قد انهارت رغم محاولات البعض أن يلتقطها من جديد. والثورة الحقيقية لم تبدأ بعد، على كل منظومات التفكير الفاسدة التي تراكمت في عقلنا الجمعي و أنتجت قياصرة متعددي الأشكال والأحجام، التغير الحقيقي لابد أن يبدأ من قاعدة الهرم الاجتماعي الآن بعد إسقاط قمته، وإلا ستبرز له قمة جديدة تشبه ما هدمناه، فالديكتاتورية طبيعة تفكير أكثر منها فرد أو نظام.فلا ترحلوا من الميدان، فقد تعتصم به ابنتي ذات الأربع سنوات ذات يوم في ثورة جديدة ضد طاغية جديد إن لم نتمكن أن نخلق اليوم عالم يليق بالتحرير.

أكاديمي مصري
[email protected]