اعتقد أن آية الله سيد علي خامنئي قرر أن يصف كل التغيرات الاجتماعية ذات الطابع الثوري التي تحدث في واقعنا العربي بأنها من تجليات الشرق الأوسط الإسلامي، ذلك المشروع الوهمي الذي يقبع في مخيلة النظام الإيراني منفرداً، بل أني أخشى إن قامت ثورة في كوبا أو في جزر القمر أو حتى في بلاد الواق واق، أن يصفها بكونها امتداداً بديهياً للثورة الإيرانية التي قامت منذ ثلاثين عاماً، على أكتاف مختلف التيارات السياسية والاجتماعية وليس التوجه المذهبي فقط كما يشاع الأن.
الغريب في الأمر والمثير أيضاً، ذلك الاتفاق المدهش بين النظام الإيراني بمختلف عناصره، وكذلك رموز المعارضة، حول ما يحدث في مصر من تغيرات سياسية، مع الوضع في الاعتبار اختلاف التوجهات والأهداف، وإن كان اتفاقاً قد يفسر لنا محاولات النظام الإيراني دائماً أسلمة كل الثورات الداخلية في بلاد بعيدة عن متناول يده. فمنذ بداية ثورة الشباب في مصر، والإعلام الإيراني بشتى أطيافه يحاول التركيز على الأبعاد الدينية خاصة تحركات الأخوان المسلمين على الساحة السياسية، وفي المقابل تحاول المعارضة الإيرانية أن تدعم التوجه الشعبي في الثورة، فرموز الحركة الخضراء وعلى رأسهم (مير حسين موسوي) الذي اعتبر أن ثورة الشباب المصرين هي بداية انتصار للحركة الخضراء في إيران، وكذلك زوجته (زهرا راهنورد) التي تحدثت في بيان موجه لنساء وشباب مصر وتونس بأن الحركة الشبابية في إيران سوف يأتي عليها أوان قريب لتحقق استقلالها من الدولة الإيرانية الحالية، وبالإضافة لمحاولات بعض الشباب الإيراني المنتمين لتيارات مختلفة متابعة ما يحدث في مصر عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وعرضها على صفحاتهم ومدوناتهم بوصفها نبراس لهم في مرحلتهم القادمة التي يرون أنها أصبحت قريبة العهد.
ذلك الدعم الذي أظهرته المعارضة الإيرانية تضامناً مع الحركة المصرية الأخيرة، أثار مخاوف تبدو منطقية في فكر النظام الإيراني، وذلك قد يرجع لسببين رئيسيين، أولهما: أن ما حدث في مصر كان مستبعداً لأقصى حد ممكن خلال السنوات الماضية، لما يجسده النظام في مصر من قوة تعتبر رمانة ميزان المنطقة بأكملها، وبالتالي فالتجاوب الذي أبداه نظام الرئيس مبارك مع متطلبات الثورة الشبابية يعد مؤشراً خطيراً على إمكانية زلزلة النظم السياسية القوية وإجبارها على تبني سياسات إصلاحية تتفق مع هوى الشعوب ورغباتها، مما قد يفتح شهية الشباب الإيراني أن يقوم بنهضة مماثلة لما حدث في عام 2009 عقب أزمة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، خاصة إن تمكنوا من صنع حركة شعبية مفتقدة للقيادة، فمن أهم الأسباب التي هدمت المعارضة الإيرانية، تمثلها خلف قيادات ذات أصول سياسية مثل كروبي وموسوي، وبالتالي أصبح من السهل على النظام أن يقوض التيار المعارض بتنحية رموزه أو توريطهم في صراعات جانبية.
ثانياً: الانقسام الداخلي على الساحة الإيرانية، فإيران الأن تمر بمنعطف دقيق، متمثل في الصراع السياسي القائم بين الوجوه القديمة والجديدة، أو أجيال النظام إن صح التعبير، وكذلك المؤسسات المختلفة الحاكمة للنظام، خاصة مؤسسة الرئاسة بقيادة أحمدي نجاد الوجه الأكثر حداثة، ومؤسسة الولاية، وأيضاً المجالس الأساسية الحاكمة، مثل مجلس الشورى (البرلمان) برئاسة (علي لاريجاني)، و( مجلس تشخيص مصلحة النظام) بقيادة (هاشمي رفسنجاني)، على خلفية الأزمات الاقتصادية التي تمر بها إيران وارتفاع نسبة التضخم لما يقارب 11 %، ومحاولات (رفسنجاني) و(لاريجاني) التقويض من صلاحيات ونفوذ نجاد. وبالتالي هناك صراعاً انتقامياً أو حرب تكسير عظام بين صقور النظام على اختلاف التوجهات، بسبب أحداث الانتخابات التي أسفرت عن أوجه متعددة للصراع. والأهم هو دعم خامنئي لمناهضة نفوذ نجاد المتزايد، واضعين في الاعتبار أن الحرس الثوري أصبح يعاني من انقسامات داخلية بسبب الصراعات حول تصعيد رمز جديد من الحرس الثوري يصلح للترشح في مرحلة الرئاسة المقبلة، ليضمن استمرار إمبراطورية العسكر الجديدة التي أسسها نجاد.
في ظل حالة الصراع تلك يصبح من الصعب تخيل أي سيناريو قد يخطر في ذهن الشباب الإيراني، الذي يمثل الأغلبية السكانية، وذو طبيعة أكثر عنفاً وقوة تتسق مع التركيبة الثقافية والاجتماعية الإيرانية، وبالتالي يكون من البديهي أن يحاول النظام الإيراني أن يُصدّر حالة من الأسلمة لثورة الشباب المصري، ليقوم بحركة إستباقية يقفز بها على أي محاولة أخرى لاستغلال ما حدث في مصر، فيعتبر كل من (خامنئي) وقبله (لاريجاني) وكذلك (رحيم صفوي) القائد السابق للحرس الثوري الإيراني، والمستشار الأعلى للقيادة العامة للقوات المسلحة في الشؤون العسكرية الآن، أن ثورة شباب مصر ليس إلا ثورة على الديكتاتور الظالم من منظور إسلامي، مجسداً لنفس التناول الإيراني للثورة التونسية.
ومع ذلك تبقى لتلك التصريحات خطورتها على الساحة المصرية، رغم التصدي لها من قبل الشباب والنظام في مشهد يحمل مفارقاته أيضاً، ولكن الأهم أن خطاب خامنئي بدا موجهاً بشكل مباشر إلى طرفين، الجيش المصري والأخوان المسلمين، على ما فيهما من تناقض، فخامنئي يقدم دعوة للجيش وبشكل مباشر أن يكسر النظام المصري أو يتخلى عنه، في مفارقة تذكرنا بما فعلة آيات الله بعد انتصار الثورة الإيرانية من فتك وتصفية للجيش الإيراني الذي دعم الثورة بكل الأشكال ثم خانه رجال الدين في مذبحة استمرت لشهور، وظل مهمشاً إلى الأن في وجود الحرس الثوري الذي بدأ بالتعبئة العامة في بداية الحرب العراقية الإيرانية، وتحول بعد ذلك إلى جهاز عسكري متكامل، ومع الاختلاف بالطبع بين التجربتين، إلا أن خلفية الثورة الإيرانية في تعاملها مع الجيش لا تنتج خطاباً يشجع فيه الجيش المصري بإثارة الفوضى أو هدم الشرعية.
ورغم أن خطاب خامنئي لم يذكر الأخوان بشكل مباشر، إلا أن التيار الإسلامي الوحيد الحركي والنشط على الساحة السياسية المصرية، هم الأخوان المسلمون، فكأنه يدعو أصدقاء قدامى للقفز على ما لا يستحقون، فرغم الاختلاف المذهبي بين الأخوان والثورة الإيرانية، إلا أن العلاقات التاريخية التي حكمت السياقين كانت واحدة تقريباً، بل أن الأسس النظرية والحركية التي أرساها كل من حسن البنا وسيد قطب من بعده، كانت تعتبر المنطلق الأساسي لتحركات آية الله الخوميني ومن دعمه من رجال الحوزة في بدايات الثورة، ولا نستطيع أن ننسى الطائرات الخاصة التي كانت تخرج من القاهرة إلى إيران محملة بالإخوان لتهنئة الخوميني بنجاح ثورته. بل أن الدعم الإيراني لحماس باعتبارها الفصيل العسكري للأخوان المسلمين الذي كانت نواته الخارجين من مصر بعد مرحلة المصالحات الأمنية مع النظام المصري، مازال قائماً للأن، والأهم أن البطولات الزائفة التي صنعها الأخوان في المصادمات الأخيرة في التحرير، والظهور الإعلامي الدائم، تعطي مؤشراً غاية في الخطورة على محاولات الجماعة أن تؤسس لانتقامات تاريخية من نظام الرئيس مبارك على حساب الشعب المصري. فخطاب خامنئي وغيره من رموز النظام الإيراني، وإن جاءت متسقة مع الفكر الثوري الديني، إلا أنها تحمل في طياتها محاولات إيرانية للسيطرة على الوضع المصري الراهن، وإن كان على المستوى الإعلامي، في جهل واضح بطبيعة المجتمع المصري، وكذلك بشباب يقود بلاده في أهم منعطف قد يمر على تاريخ مصر في المرحلة الراهنة على الأقل.
وفي ظل حالة الهرج السياسي الذي يتابعه العالم الأن في مصر، يظل هناك سؤالاً قد يبدو غير منطقي في هذا السياق، ولكني أرى ضرورة طرحه، وهو أين الشيعة المصريين!!، بمعنى أدق، كان للمتحدثين باسم الشيعة في مصر حضوراً إعلامياً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، ولكن من الملاحظ غيابهم اللافت في هذه المرحلة الحرجة، أم أنهم قرروا انتظار المنتصر في الساحة السياسية للانضمام تحت لوائه. وقد أجتهد مجيباً أن التيار الشيعي في مصر على قلته، يأتي من خلفية أخوانية صرفه، فأغلب رموزهم اعتنقوا التشيع في مرحلة الثورة الإيرانية أي بعد عام 1979، على أسس فكرية أخوانية، وبالتالي قد يكون حضورهم ممثل الآن في صفوف الأخوان.
قد يحمل خطاب آية الله خامنئي، إشارات هامة، ولكن يعكس كذلك مخاوف تُبطن الخطاب السياسي الإيراني بشتى طوائفه، فالذي يحدث في مصر، يشبه إلى حد بعيد رد فعل الشباب الإيراني عام 2009، ضد نظام قمعي مارس كل أشكال العنف والبطش من إعدام عشوائي دون محاكمات، واعتقالات لا تنتهي للآن، نظام متعدد الطوابق كلما حاول الإصلاح الوصول إلى مرحلة يصطدم بسقف آخر، ليقف في النهاية أمام قدسية دينية مفتعلة. فإن كانت ثورة الشباب المصري تمثل أهمية سياسية واجتماعية رغم ما تتعرض له من اتهامات أو سلبيات، أثارت ردود فعل النظام الإيراني بكل هذه القوة، فهل سيكون لإيران نفس ردة الفعل إن قامت نهضة شبابية أخرى في سوريا مثلاً، على خلفية العلاقات السياسية المتينة بين النظامين السوري والإيراني، أم أن إيران تحكم قبضتها جيداً على جيرانها!!!!.


أكاديمي مصري
ahmedlashin@hotmail. co. uk