عبدالله بن بجاد العتيبي


تغيّر الزمان والبشر، ولم يزل النظام السوري يراوح في مكانه القديم، الابن يقتفي طريق الأب، مع تغييراتٍ طفيفةٍ، استطاع النظام استيعابها وإنْ لم يستوعب المشهد الأكبر بعد، وكأن أربعين عاماً مرّت بالزمان والمكان لم تمرّ على سوريا.

عنف الدولة، إنزال الجيش للشوارع، قتل المدنيين، الاعتقال، التعذيب، كلها تشكل سيمفونية لا يبدو أن النظام يستطيع أن يعزف غيرها، وبينما احتشد الآلاف من المحتجين في غالب المدن والبلدات السورية مطالبين برحيل النظام في جمعة الحرية quot;آزاديquot;، لم تزل قنوات النظام الإعلامية الرسمية تبث استقراراً شاملاً في البلاد، يختلف تماماً عمّا تنقله الوكالات الإخبارية والقنوات الفضائية فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي، وعالم الإنترنت، ويبدو أن النظام لم يلحظ تغيّر التاريخ ويحسب أنه قادر على إخفاء ما يجري عن العالم كما كان يفعل من قبل.

حجة الجماعات الإسلامية الإرهابية حجة واهية يعتمدها النظام في سوريا، فالجماعات الإرهابية لها تاريخ وحضور في باكستان التي اغتيل فيها بن لادن وفي اليمن وغيرها، والجماعات الإسلامية المتشددة لها وجود في مصر المنتفضة، وفي ليبيا وغيرها، ولكن في سوريا الوضع مختلف، فلم يسمع أحد من قبل لا من النظام ولا من الباحثين والمراقبين عن أي جماعات إرهابية في سوريا، وقصارى ما كان يُقال هو دعم سوريا لبعض هذه الجماعات خاصةً في العراق، ثم إنّ سلمية الاحتجاجات تدحض هذه الحجة، وأكثر من هذا انتشارها في غالب البلاد تجعل النظام في موقف حرجٍ، إذ كيف تحوّل الشعب تحت سلطته إلى جماعات إرهابية.

الاحتجاجات في سوريا تضخمت حتى أخذت في عبور الحدود، فالنازحون السوريون الذين عبروا الحدود إلى لبنان بلغ عددهم الآلاف، وثمة مظاهرات تركية على الحدود الشمالية لسوريا تندد بممارسات النظام، مع استحضار تصاعد اللهجة السياسية التركية تدريجياً ضد نظام الأسد، والمخاوف التركية من الحراك الكردي في الشمال السوري، واحتمال انتقاله لأكراد تركيا، والضغوط التركية تؤثر في قرار دمشق، ونتذكر قرار الأسد الأب تسليم عبدالله أوجلان لتركيا في العملية المشهورة.

يشتكي النظام في سوريا من الحدود مع العراق وأن تهريب السلاح أصبح ذا مسارين بدلاً من مسارٍ واحدٍ، وتمثل المغامرة السورية في فتح حدود الجولان مع تصريحات رامي مخلوف من أن أمن إسرائيل مرتبط بأمن سوريا دليلاً على تخبط النظام هناك بعد فقده لتوازناته الاستراتيجية السابقة.

يبدو أنصار النظام السوري في المنطقة في ترقبٍ حذرٍ لما يجري في الداخل السوري، فحماس حاولت النأي بنفسها عمّا يجري بين النظام وشعبه، وانزاحت سياسياً عن مواقف النظام وذلك بتوقيعها على المصالحة مع فتح والسلطة الفلسطينية، وquot;حزب اللهquot; يريد دعم النظام بكل ما يملك، ولكنّ زعيمه الذي كان يتصيد المناسبات ليتحدث للعالم العربي أصبح الصمت لديه حكمةً فسكت عن الكلام المباح، وهو يرقب بعين الحذر الصراع الحقيقي أو المصطنع بين نجاد والولي الفقيه فنسي المقاومة كما نسيها الأسد كما نسيها خامنئي، فالكل بات مهتماً بترتيب بيته الداخلي.

أعلنت بعض الدول الغربية عقوبات دولية على سوريا شملت عدداً من الأسماء الكبيرة في قيادة النظام، والعقوبات الدولية مفيدة في إضعاف الأنظمة، ولكن على المدى الطويل لا القصير، وما يجري في سوريا من احتجاجاتٍ يواجهها الجيش بعتاده وعدّته لا تحتمل انتظاراً طويلاً لا يواكب الأحداث.

أحسب أن ما سيحسم الأمر في سوريا عدة أمور: من الشعب تصعيد الاحتجاجات حتى تصل دمشق وحلب، العاصمتين السياسية والتجارية، ومن النظام التعنّت والاستمرار في سياسة القمع والاعتقال، ومن الإعلام والإعلام الجديد إظهار أفعال النظام بالصور ومقاطع الفيديو الموثقة.

يبدو النظام في سوريا، وكأنه يخشى الإصلاح والتغيير أكثر مما يخشى الاحتجاجات والانتفاضات في الشارع، فهو يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى، يعلن أنه سيصلح وسيغير وسيطوّر، ولكنّه على الأرض لا يفعل شيئاً من هذا، فلا الإصلاحات التي أعلنها طبّقت ولا الحوار الذي دعا إليه قام، إنما هو التسويف والمماطلة والوعود مع العنف الذي يطبّق في الشارع.

ثمة خشيتان لدى كثير من المراقبين والدول حول العالم تجاه الوضع في سوريا، الخشية الأولى أن يعود النظام لكامل قوته وعنفوانه فتصبح الكلمة العليا في المنطقة لمحور ممانعةٍ متعنّتٍ، الخشية الثانية أن يسيطر quot;الإخوان المسلمونquot; على سوريا بعد الأسد مع إرثهم العدائي مع إيران، ليخلقوا خطراً جديداً ومحوراً أصولياً في المنطقة يشمل الإخوان المسلمين، في تونس وفي مصر كما في سوريا وفي اليمن، خاصة وأن الدول العربية التي تحدث فيها الانتفاضات ليس لدى شعوبها وبعض نخبها وعي حقيقي بخطر الإخوان المسلمين والجماعات الأصولية وعجز الكثيرين عن التفريق بين الدين وبين استخدام الدين لجني مصالح سياسية، ما يمكن الإخوان من اللعب على كل الخيوط.

بشكل عام، فإن الثورات عبر التاريخ لا تعني الحرية بالضرورة، بل ربما جلبت أنظمة أشد استبداداً، والاحتجاجات والانتفاضات لا تعني الوصول للديمقراطية الكاملة، ثم إن تحويل البلدان والشعوب إلى الديمقراطية لا يمرّ عبر صندوق الاقتراع فقط، بل يجب أن يمرّ عبر عقول ووعي الشعوب نفسها، وهي عملية تراكمية طويلة، لا يمكن أن تتمّ في الشارع بالتأكيد.

نحن في منطقةٍ متخمةٍ حدّ الثمالة بالطائفيات والإثنيات والمذهبيات والعنصريات، الكراهية لدينا أقوى من المحبة، الدين أولى من السياسة ويجب أن يهيمن عليها، الطائفة أولى من الدين، المذهب أولى من الطائفة، الإثنية رائدتها العنصرية، لا مكان لدينا للتعايش إلا كشعارٍ، ولا زمانٍ للحوار إلا في الأحلام، ثم يريد البعض أن يقنعنا بأن ما يجري مجرد مرحلةٍ انتقالية بين العالم القديم بكل مساوئه السابقة، والعالم الجديد بكل أحلامه الوردية، والمشكلة أن البعض يعتقد أن مقتل مئات الآلاف لا يعدو أن يكون إلاّ ضريبةً صغيرةً في سبيل الخيال الواسع الذي يبنيه لنفسه.

كم ارتهن شعارٌ أمةً، وكم اعتقلت فكرةٌ وطناً، سوريا والعراق (أمةٌ عربيةٌ واحدةٌ ذات رسالةٍ خالدةٍ) في مرحلة quot;البعثquot; الماضية، والإخوان المسلمون (دولةٌ مدنيةٌ ذات مرجعية إسلامية)، كما هو شعار حزبهم الجديد في مصر في المرحلة المقبلة، والشعارات والأفكار التي تطرح في الحاضر تؤثر على المستقبل وتمنح المراقب القدرة على قراءة التوجهات، هكذا جرى في الماضي البعيد والقريب، منذ الخوارج وشعار (لا حكم إلا لله) إلى المودودي وقطب وفكرة الحاكمية.

قتل المدنيين جريمةٌ، واستهداف المواطنين بالقوّات المسلحة والجيش جريمة أكبر، وهما أمران مدانان بكل المقاييس الدينية والقانونية والأخلاقية، واستنكارهما واجبٌ، في واقعٍ مؤلمٍ، ولكنّ هذا لا يمنع من استشراف الأخطار القادمة ومحاولة القراءة الواعية للمستقبل، والذي يبدو أنّ المؤشرات تقول إننا مقبلون على زمنٍ أصوليٍ جديدٍ في المنطقة ينمو تحت شعارات الحرية والديمقراطية الرنّانة ليقضي عليها.