quot;في الثورة، كما في الرواية، الخاتمة هي أصعب الأجزاء تخيّلاً وابتكاراًquot;.
(أليكسيس دو توكفيل)


إياد أبو شقرا

لكل ثورة سارقون، ولكل شعار نبيل مشوّهون، وفي وجه كل انتفاضة شعبيّة قوى انتهازية تركب موجتها وتحرفها عن اتجاهها السليم الذي قصدها مفجِّروها وسقط من أجله شهداؤها.
ثورات quot;الربيع العربيquot; حتماً ليست استثناءً. وبالتالي، من الضروري القول - مع الاحترام للجميع - إلى أنها ليست من صنع محطّات فضائية تدّعي الإسلام والنظافة وتنام وتصحو على قرع طبول الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا هي من صنع السيد حسن نصرالله أو الشيخ يوسف القرضاوي أو هذا وذاك ممّن انتظروا إلى بعد تحرّك الشباب الشجاع الأعزل وتحدّيه الرصاص وجنازير الدبابات ... لإعلان quot;أبوّتهمquot; هذه الانتفاضة أو تلك. أما العنصر الأهم من سابقيه فهو أن هذه الانتفاضات أو quot;الثوراتquot; لم تأت للاستعاضة عن ديكتاتورية بديكتاتورية بديلة أشدّ ظلامية، وأقل تسامحاً، وقد لا تكون دونها فساداً.

خلال الأسابيع القليلة الفائتة كُتب الكثير في الإعلام العربي عن quot;التنوّعquot; في تبلوُر quot;الثوراتquot; العربية في الكيانات المختلفة ابتداءً بتونس، وانتهاءً - لتاريخه على الأقل - في سورية. وكان مهماً جداً إبراز تنوّع النسيج الداخلي بين أقطار الأمة العربية الذي طمسه طويلاً الغلوّ في فهم quot;الهوية القومية العربيةquot;. وتفاقم الحال لاحقاً بفعل quot;عَسكَرةquot; أنظمتها، ومن ثَم تحوّل هذه الأنظمة وتنظيماتها quot;السياسو - أمنيّةquot; إلى quot;مافياتquot; عائلية وفئوية تمارس quot;بلطجيتهاquot; وquot;تشبيحهاquot; وسرقاتها لأرزاق الناس ومصادرتها حقوقهم السياسية تحت ذرائع شتى على شاكلة: quot;تعزيز ثقافة السلامquot;، وquot;الدفاع عن الوحدة الوطنيةquot;، وquot;مواجهة خطر الأصولية ولا سيما القاعدةquot;، وquot;الممانعةquot;، وquot;مقاومة إسرائيلquot;، وتعميم quot;الثورة الخضراءquot; ...إلخ.

أحد كبار الكتّاب العرب كتب بالأمس قائلاً أن التشدّد في المطالبة بالاقتصاص من الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وأفراد أسرته والمقرّبين منه، أنهى عملياً الطبيعة السلمية للانتفاضات العربية وأدخلها في نفق الحسم الدموي.
هذا الكلام صحيح. وبصرف النظر عمّا إذا كان الرئيس المصري السابق وأركان نظامه يستحقّون أشدّ العقوبات أم لا، فإن الرسالة التي يحملها ما حدث، ويحدث اليوم، في القاهرة إلى طرابلس وصنعاء ودمشق وغيرها من عواصم الدول المنتفِضة هي إسقاط خيار التسليم السلِس للسلطة بالمطلق. وهذا مع أنه من المشكوك فيه أصلاً وجود أي نيّة عند أصحاب السلطة تسليمها. فأبواق هذه الأنظمة دأبت حتى اللحظة على إعطاء قادتها quot;الملهَمينquot; أوصافاً استثنائية يخجل أي مواطن بأي من الدول الديمقراطية في لصقها برئيس دولته أو حكومته. وأذكر ان أحد الأبواق الحكومية المدافعة عن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح وصفه خلال الأسبوع الماضي بأنه quot;رئيس تاريخيquot;، وبالتالي quot;لا يجوز التعامل معه بهذه الطريقةquot;. ونعرف جيداً أن الرئيس بشار الأسد، quot;الزعيم القائدquot;، رشّحه أحد أعضاء البرلمان السوري ليكون ليس فقط زعيم العالم العربي بل زعيم العالم بأسره. أما عن العقيد معمّر القذافي quot;الأخ القائدquot; وquot;ملك ملوك أفريقياquot; ... فحدّث ولا حرج!
مع كل هذا، الجليّ الآن، أن سقوط إغراء الجَزَرة وبقاء تهديد العصا، سيطيل أمد العنف والدم. والجليّ أيضاً أن القوى الدولية التي ترصد تطوّرات الأوضاع في الدول المعنيّة مباشرة بـquot;الربيع العربيquot;، وتلك التي تتأثّر وستتأثّر بها عاجلاً أو آجلاً، تميّز في طرق تعاملها، وتتبع مع كل حالة أسلوباً خاصاً بها. فحتى روسيا سارت خلال قمة quot;مجموعة الثمانيةquot; الأخيرة في ركاب السبعة الآخرين وأنهت تحفّظها عن طيّ صفحة معمّر القذافي بقوّة التدخل العسكري.
في المقابل، لا يزال هاجس quot;القاعدةquot; والتخوّف من نفوذ إيران عبر الحوثيّين يشكل عنصر إبطاء في العمل مباشرة على إسقاط علي عبدالله صالح، في حين نلاحظ أنه حتى القمع الدموي البشع في سورية لم يقنع القوى الغربية بعد بأنه يوجد بديل جاهز ومقبول لنظام الأسد.

الحقيقة، التي تستحقّ التوقّف عندها هو أن بعض مكوّنات الانتفاضات العربية باتت تشكل عبئاً عليها.
نعم، ثمة مكوّنات ظهرت في تونس، وظهرت بصورة أوضح وأخطر في مصر، تشكّل اليوم quot;نقطة ضعفquot; خطيرة في حالة quot;الربيع العربيquot;، وربما تُفضي إلى إجهاض ما أنجز أو ما يعد بإنجازه. ومع أنه من المبكّر جداً توقّع quot;نضجquot; الثورة، فإن ثمّة أصواتاً وشعارات وتحرّكات تحصل على الأرض تنمّ عن أن الرؤية ضبابية جداً لوضع ما بعد انتصار الثورة، وتشير إلى وجود ألغام قاتلة على طريق تحقيق الانتصار المأمول.
سبقت الإشارة إلى التشدّد في الملاحقة والتجريم باسم العدالة، بعكس ما حدث في جنوب أفريقيا مع quot;مفوضية الحقيقة والمصالحةquot; التي أطلقها العظيمان نيلسون مانديلا وديزموند توتو، حيث بُني العفو على المصارحة والحقيقة والاعتراف بالخطأ، ومن ثَم سار الركب قدماً بالحد الأدنى من الأحقاد.
غير أن ثلاثة quot;ألغامquot; أكثر خطورة تهدّد بنسف quot;الربيع العربيquot;، هي: أولاً لغم التكفير، وثانياً لغم الإلغاء، وثالثاً اللغم الإسرائيلي.
في سورية، بالذات، لعب النظام باقتدار ndash; حتى اللحظة ndash; لعبة التخويف بالفتنة الطائفية. وسواءً كانت إثارة موضوع الفتنة من افتعال أجهزة النظام الأمنية والإعلامية وحدها ... أم أن ثمة جهات انزلقت حقاً إلى رفع شعارات فئوية قاصرة ومسيئة - عن قصد أو من دون قصد - فإن الحصيلة الأكيدة واحدة هي أن أي خطاب طائفي وتكفيري مَوتور سيُطيل عُمر النظام ويحقّق له مبتغاه.
في اليمن، أيضاً، يحاول علي عبدالله صالح بعدما استنزف كل أعذار رفض التوقيع على مبادرة مجلس التعاون الخليجي، تسليط الضوء على انعدام المشروع الموحّد عند فصائل quot;اللقاء المشتركquot;، وتعدّد الاتجاهات في داخله، وانعزاله عن شباب الثورة الذين حرّكوا الشارع.
لغما التكفير الديني والمذهبي، والإلغاء السياسي والتمثيلي، يتكاملان طبعاً مع الهروب الإسرائيلي المتعمّد من أي سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، كما quot;بشّرناquot; بنيامين نتنياهو في واشنطن.
اليمين الإسرائيلي يريد في الأساس سَحق أي نهضة من أي نوع يمكن أن تقوم في العالم العربي، ويهمه افتعال التفجيرات الداخلية في كل كيان من كياناته. ولقد راهن حتى الآن ببراعة وخبث على تأجيج الفتنة السنّية ndash; الشيعية، وهو يواصل تنفيذ رهانه خطوة خطوة مستفيداً من الطموح الإيراني الجامح لاختراق المنطقة. وعليه، ما لم يُدرك العرب أبعاد تلاقي المصالح فوق رؤوسهم، وانعدام الرغبة عند المجتمع الدولي في وقف اليمين الإسرائيلي عند حدّه ... سيطول انتظار تفتح براعم quot;الربيع العربيquot;.