Fouad Ajami - The New Republic
كان ملفتاً أن يُقدِم غيتس، في خطابه الأخير عن السياسة الخارجية، على الاعتراف بأهمية الجهود الأميركية في العراق: فقد اعتبر أن استمرار الوجود العسكري الأميركي في ذلك البلد هو طريقة فاعلة لمراقبة النظام الإيراني في الدولة المجاورة.
حصلت الحرب الأميركية في العراق لتوها على مصادقة من شخص غير متوقع، فقد اعترف وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، في ما سماه ldquo;آخر خطاب سياسي مهم له في واشنطنrdquo;، بالمكاسب التي حُققت في العراق، وفاجأ الجميع حين اعتبر أن العراق أصبحت ldquo;الدولة العربية الديمقراطية الأكثر تقدماً في المنطقةrdquo;، إذ اعتبر غيتس أن هذه التجربة الديمقراطية في العراق كانت فوضوية، غير أن العراقيين ldquo;لم ينزلوا إلى الشوارع ليتبادلوا إطلاق النار، ولم ينزل عناصر النظام إلى الشوارع لإطلاق النار على الشعبrdquo;. بالتالي، لم تذهب جهود الأميركيين والعراقيين سدىً. وقد أظهرت الانتفاضة التي طبعت ربيع العرب أن دولة محترمة نشأت في قلب العالم العربي.
لم يكن روبرت غيتس دوماً من مؤيدي حرب العراق، ولابد من التذكير بأنه كان عضواً بارزاً في ldquo;مجموعة دراسة العراقrdquo;، وهي عبارة عن مجلس من الحكماء والخبراء في السياسة الخارجية، وقد شاركه الرئاسة كلٌّ من جيمس بيكر ولي هاملتون اللذين اتخذا موقفاً تشاؤمياً من الاستراتيجية المتبعة في العراق، إذ دعم التقرير الذي أعدوه تطبيق انسحاب على مراحل من حرب العراق والعمل على التكيف مع سورية وإيران.
وحين انضم غيتس لاحقاً إلى حكومة جورج بوش الابن، اعتُبر تعيينه انقلاباً كبيراً على إرث خلفه دونالد رامسفيلد، فقد أدرك الجميع أن مشهد وصول ذلك الرجل المتحفظ الجديد إلى وزارة الدفاع لم يكن ينذر بأي جهود لنشر الديمقراطية في العالم العربي. لقد كان الوزير غيتس، خلال مسيرته المهنية الطويلة، يؤيد المقاربة الفلسفية الخاصة بزبيغنيو بريجنسكي وبرينت سكوكروفت، وهما نظيران له يتبنيان نزعة واقعية على مستوى السياسة الخارجية، وكانا يقاربان شؤون العالم بشكل مباشر وموضوعي، وقد نصّبا نفسيهما بصورة شخصين واقعيين يعتبران حرب العراق والدبلوماسية المبنية على مبدأ الحرية، بحسب سياسة جورج بوش الابن، مشاريع جنونية ووهمية وغير واقعية بالنسبة إلى العالم العربي.
كان الرجلان يفكران بالشرق الأوسط الكبير لدرجة أنهما كانا يقاربان الأوضاع فيه انطلاقاً من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وقد اعتبرا أن مفتاح الحل للمعضلة الأمنية الأميركية في المنطقة يكمن في التوصل إلى تسوية عربية إسرائيلية من شأنها امتصاص الموجات المعادية للولايات المتحدة ومصالحة ldquo;المعتدلينrdquo; العرب كي ينعموا بحالة السلم السائدة في الغرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. كانت هذه الفكرة محور مجموعة دراسة العراق؛ أي التشديد على محورية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لإرساء السلام في المنطقة ومدى تأثيره في موقع الولايات المتحدة في أراضي المسلمين.
كذلك، لم يُخفِ روبرت غيتس رأيه بالشأن الإيراني، إذ كان، هو وزبيغنيو بريجنسكي، من أبرز المدافعين عن ldquo;التواصلrdquo; مع النظام في طهران، وقد كانت هذه المقاربة أساس عقيدة الأشخاص ldquo;الواقعيينrdquo;، لذا كان ملفتاً أن يُقدِم غيتس، في خطابه الأخير عن السياسة الخارجية، على الاعتراف بأهمية الجهود الأميركية في العراق: فقد اعتبر أن استمرار الوجود العسكري الأميركي في ذلك البلد هو طريقة فاعلة لمراقبة النظام الإيراني في الدولة المجاورة.
هل كان غيتس محقاً بشأن التقدم الذي أحرزناه في العراق وبشأن المستقبل الأميركي في ذلك البلد؟ باختصار، كان محقاً بالفعل! لا داعي أن يعلن العراقيون الأمر صراحةً، لكن من المعروف أن ميزان القوى في منطقة الخليج العربي سيتغير نحو الأفضل عند عقد اتفاق أمني بين الولايات المتحدة والحكومة في بغداد.
ومن المعروف أن ميزان القوى في منطقة الخليج العربي سيتغير نحو الأفضل عند عقد اتفاق أمني بين الولايات المتحدة والحكومة في بغداد، فسبق أن اعتبر أنصار مقتدى الصدر أي اتفاق محتمل مع الأميركيين بمنزلة اتفاق مع الشيطان، ولكنهم لا يملكون حق النقض ضد القرارات الوطنية الكبرى في بغداد، فاستناداً إلى التجارب السابقة، يجب ألا ننسى أن رئيس الحكومة نوري المالكي حارب وانتصر في معركته الكبرى ضد أنصار الصدر، فقد سحقهم في ساحة المعركة ولكنه منحهم مساحة ضمن حكومته الائتلافية، فسمح لهم بالحصول على الامتيازات والدعم لكن وفق شروطه الخاصة.
لقد تبين أن الديمقراطية لديها إيجابياتها الخاصة: يجب ألا يحمل نوري المالكي وحده عبء عقد اتفاق أمني مع الأميركيين، فقد سبق أن اعتبر أن قرار بقاء القوات الأميركية في العراق سيتوقف على موافقة الكتل السياسية الكبرى في البلاد، وأن أنصار الصدر سيضطرون إلى تقبل قرار الأغلبية، وسيحتفظ أنصار الصدر بشرف ldquo;المقاومةrdquo; ضد الأميركيين، لكنهم، في الوقت نفسه، سيتمسكون بالامتيازات التي مُنحت لهم بعد تسهيل وصولهم إلى خزانة الدولة ومواردها، ويدرك مقتدى الصدر والمسؤولون السياسيون من حوله أن الحياة من دون دعم الحكومة وعائدات النفط في دولة مركزية ستكون رحلة محفوفة بالمخاطر.
لا ننسى أيضاً التعهد الذي أطلقه باراك أوباما حين كان مرشحاً للرئاسة، فوعد حينها بأنه، إذا أصبح رئيساً، سيُضعف دور الجيش الأميركي في العراق بحلول نهاية عام 2011. كان ذلك الوعد أحد المواضيع الحاسمة التي أثرت في فوزه بالانتخابات الرئاسية، وقد كسب بفضله دعم ldquo;التقدميينrdquo; داخل حزبه لأنهم كانوا قد أعلنوا معارضتهم الشديدة لحرب العراق، لكن باراك أوباما بات الآن الزعيم المطلق للقوة الأميركية، فهو اختلف مع ldquo;التقدميينrdquo; بشأن أفغانستان، واستعمال الطائرات بلا طيار في باكستان، وملف معتقل غوانتنامو، والمحاكم العسكرية، فضلاً عن مجموعة كاملة من السياسات الأمنية الوطنية التي كانت تفرّق بين سياساته وسياسات خلفه، فاشتكى اليساريون من الوضع لكنهم رضخوا في نهاية المطاف للمتطلبات السياسية.
لقد استُنزف غضب اليساريين بشأن حرب العراق، وسرعان ما سيصبح الوجود الأميركي المستمر في العراق تحت إشراف الأصوليين ضمن صفوف الحزب الديمقراطي، فهم لن يُجبَروا على الموافقة على تلك الخطة بالضرورة، بل سيُلقى ذلك العبء على عاتق الوسطيين، والجمهوريين أيضاً.
لا مشكلة في افتراض أن روبرت غيتس يعبّر عن توجه إدارة أوباما، فهو مسؤول يوشك على مغادرة منصبه، وهو يعلن بعض الوقائع السياسية الضرورية، حتى لو كانت سلبية بعض الشيء. غيتس هو رجل على درجة عالية من الانضباط، وهو لم يعمل لحسابه يوماً، بل إنه بنى علاقة سياسية وشخصية وثيقة مع الرئيس أوباما، ولا شك أن موقفه الأخير في واشنطن كان بمنزلة مكافأة لكل من سيتابعون مهمة الحفاظ والدفاع عن الموقع الأميركي في العراق وفي منطقة الخليج العربي.
ما يميز العلاقة بين الولايات المتحدة والعراق هو القدرة على تغذيتها ودعمها حتى الآن من دون جلبة أو خطابات شاعرية، إذ يمكن أن يقبل العراقيون باستمرار الوجود الأميركي مع الحفاظ على جزء من السيادة والاستقلالية السياسية، وفي المقابل، يمكن أن يكون المسؤولون الأميركيون كتومين في عملهم وأن يطلقوا مواقف مدروسة، فهم لا يحتاجون إلى تملق العراقيين أو سحب ما قالوه سابقاً عن الحرب وكلفتها وجنونها، كما ستدرك الدول المجاورة للعراق حتماً مسار الأوضاع.
في طهران، وفي العواصم العربية التي كانت قلقة في السابق من العلاقة الأمنية بين الولايات المتحدة والحكومة التي يترأسها الشيعة في بغداد، يجب أن تتقبل القوى المختلفة هذه العلاقة القائمة بين الولايات المتحدة والعراق، وسيدرك الإيرانيون على وجه التحديد أن حدودهم الطويلة مع العراق تشكل، لأسباب عملية كثيرة، جبهة عسكرية مع القوى الأميركية، فهم سيشعرون بالاستياء حتماً إذا نشأ هذا الواقع الجديد في جوارهم بدفعٍ من إخوانهم الشيعة الذين حصلوا على نفوذ غير متوقع في بغداد.
سيكون لعدو الغرب كلمته الحاسمة حول طريقة تطور الأمور بالنسبة إلى القوى الأميركية في العراق، إذ يمكن أن نتوقع من الإيرانيين وعملائهم في العراق أن يبذلوا كل ما بوسعهم لجعل الوجود الأميركي دموياً ومكلفاً قدر الإمكان، إذ تفصل حدود طويلة ومنفلتة بين إيران والعراق، وبالتالي يسهل على العملاء والمخربين الإيرانيين التسلل عبرها، كما يمكنهم أن يأتوا بصفة ldquo;حجّاجrdquo;، وقد تتكرر الأحداث التي طبعت لبنان خلال الثمانينيات من خلال تنفيذ أعمال إرهابية كبرى تستهدف القوات الأميركية.
وستُطالَب الحكومة العراقية ببذل ما بوسعها لتعقب ومطاردة المخربين والإرهابيين، فهذا النوع من الاستخبارات ليس من مهمة الجنود الأميركيين، وستتطلب هذه المهمة إرادة قوية وشجاعة سياسية من جانب حكام العراق، فهم سيضطرون إلى التحدث إيجاباً عن الأميركيين والاعتراف بدور القوات الأميركية في حماية العراق والدفاع عنه، وبالتالي، لن يستطيعوا إغفال النزعة المعادية للأميركيين أو دعمها.
حتى في أفضل الأحوال، سيكون لاستمرار الوجود الأميركي في العراق كلفته ومآسيه طبعاً، لكن يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لذلك، ويجب أن تتقبل الخسائر والمصاعب التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من قرار البقاء في وضع متخبط وصعب بهذا الشكل.
التعليقات