خلف الحربي

مثلما تسمى الجزائر بلد المليون شهيد، وموريتانيا بلد المليون شاعر، والعراق بلد المليون نخلة، فإن مصر المحروسة يمكن أن تكون بلد المليون سكسوكة!، هذا ما وجدته في جريدة الجمهورية المصرية التي أخذتها معي في محطة الانتظار الطويلة كي أعرف أخبار مصر بعد الثورة، وكان أول ما لفت انتباهي موضوع عن جدل مثير بين الفقهاء بسبب حملة الشباب السلفيين عبر الفيس بوك التي دعوا خلالها لمشروع إطلاق مليون لحية في مصر قبل حلول شهر رمضان المبارك، مشروع المليون لحية يأتي كدليل على أجواء الحرية التي تعيشها مصر ndash; (بعد أن كانت اللحية تهمة تقودك إلى مكتب أمن الدولة في المطار ) بشرط أن لا يلغي هذا المشروع السلفي حق شباب الثورة الدعوة عبر الفيس بوك لمشروع مليون (سكسوكة)!.
وبعيدا عن مشروع المليون لحية فإن المشاريع الاقتصادية في مصر ليست على ما يرام، حيث نشرت الصحيفة تحقيقا موسعا بعنوان (سوق العقار ينهار) أكد فيه المستثمرون بأنهم توقفوا عن العمل تماما بسبب الانفلات الأمني وارتفاع أسعار الخامات وقالوا إن شبح السجن يطاردهم إذا لم يلتزموا بالعقود التي وقعوها.
وفي صفحة المحليات بدا رئيس اتحاد عمال مصر وقد ضاق ذرعا بانشغال النقابات العمالية بالاعتصامات والاحتجاجات فطالب في اتصال هاتفي مع الجريدة بـ(جمعة الإنتاج)! ولكن هيهات .. ففي الصفحة المقابلة ثمة خبر حول مسيرة بالمعاطف البيضاء تعتزم نقابة الأطباء تنظيمها لإقالة وزير الصحة.
على أية حال أخبار مصر المحروسة (نص ونص) أي أن فيها ما يبهج القلب وفيها أيضا ما يوجعه، فقد قررت وزارة الإسكان تخصيص 200 ألف وحدة سكنية سنويا لمحدودي الدخل وثمة خطة بعيدة المدى منها معالجة نقص المياه بتحلية مياه البحر ولا عزاء لنهر النيل الخالد!، أما وزير التربية والتعليم فقد أكد للجريدة أن لجان امتحانات المرحلة الثانوية سوف تكون تحت حماية الجيش والشرطة وأنه قد تم رسم خرائط لمواقع هذه اللجان لتسهيل الوصول إليها عند حدوث أي طارئ!.
صحيح .. نسيت أن أقول لكم بأن الخبر الرئيسي في الجريدة كان عن قيام المئات من شباب الثورة بتشييع 19 شهيدا مجهولي الهوية تتراوح أعمارهم بين 20 ndash; 25 عاما، هؤلاء المنسيون العظماء الذين ضحوا بحياتهم من أجل أناس لا يعرفونهم نسيت أن أقرأ الخبر الذي يخصهم في غمرة انشغالي بقراءة أخبار مصر الجديدة وأحلامها وأفكارها ومحاكماتها وجرائمها، عدت بسرعة يخالطها تأنيب الضمير إلى خبر تشييع الشهداء المجهولين وأعجبت بتأكيدات شباب الثورة الذين أكدوا أنهم سيقومون بعد دفنهم بالبحث عن ذوي الشهداء مجهولي الهوية وتعويض أبنائهم وأهاليهم وطالبوا بنصب تذكاري لهم، وفي الصفحة المقابلة قرأت خبرا عن تجديد حبس عضوين بمجلس الشعب المنحل لاتهامهما بالوقوف وراء ما يعرف بـ (موقعة الجمل) التي اقتحم خلالها البلطجية ميدان التحرير بالجمال والخيول.
قلبت جريدة الجمهورية صفحة صفحة، قرأت حتى الإعلانات المبوبة وأخبار المجتمع، لم أجد أي صورة لحسني مبارك (الذي يقال إنه صدرت توجيهات للإعلام الرسمي بتسميته الرئيس السابق عوضا عن الرئيس المخلوع)، تخيلوا .. لا صورة لرئيس الجمهورية في الجمهورية! .. أصلا لا يوجد رئيس للجمهورية، لذا لم تعد الجمهورية هي ذاتها الجمهورية التي نعرفها!. حاولت أن أخفف عن نفسي بالكاريكاتير المصري اللاذع فوجدت في كاركاتير فرماوي رسما طريفا لواحد من رموز الفساد يمسك بالسيجار الفاخر ويتحدث إلى المذيعة الحسناء قائلا: (عامل ريجيم طول العهد البائد ما باكلش غير حقوق الناس وأموال البنوك .. وبعد الثورة نفسي بطبق ملوخية بالأرانب على سبيل التغيير!).