عبدالله بن بجاد العتيبي

في عصر ثقافة الصورة والفضائيات وعصر وسائل الاتصال الحديثة، أصبحت الصورة ومقطع الفيديو النابع من قلب الأحداث يصل للعالم أجمع بضغطة زرٍ واحدةٍ، وفي ظل إغلاق بعض البلدان في وجه الإعلام تصبح الصور والمقاطع مطلباً ملحاً لوسائل الإعلام، وكل متابع ومراقب للمشهد لأنها تمنح صورةً أفضل وربما وحيدةً للتفاصيل الصغرى ومن ثمّ الرؤية الكبرى.

في سوريا، كان مثيراً ذلك المقطع على quot;اليوتيوبquot;، الذي نقلته لاحقاً بعض الفضائيات، وكان فيه رجال من الجيش السوري يعذّبون معتقلين في جوبر حمص ndash;حسب عنوان المقطع- والمقطعٌ دون شكٍ بشعٌ ومقززٌ، مع هذا فقد استوقفني حديث الضابط أو الجندي السوري، وهو يركل أحد المعتقلين ويصرخ عليه مع كل ركلةٍ: هذه منشان (من أجل) الحرية، وهذه منشان الشهيد، ثم عاد ليسأله ndash;مستغرباً- وهو مستمرٌ في الركل: فهمني شو الحرية؟ فهمني شو الحرية بدي أعرف؟!

أحسب أنّ هذا المقطع حين نقرأه في ظل السياق العام للأحداث والأخبار الواردة من هناك له عدة دلالاتٍ منها: أولاً مع استحضار أنّ الجيوش لا تعرف إلا الأبيض والأسود، عدوّ وصديق، خصمٌ وحليف، لهذا فإن مصطلحاتها صارمةٌ في تعريف أي جهةٍ تواجهها. ويبدو تعامل الجندي مع المعتقلين من المواطنين السوريين ndash;في المقطع- قائماً على أساس أنهم من ألدّ الأعداء. ثانياً لم يبد على الجندي أنّه يطبق المبدأ العسكري المعروف quot;نفّذ ثم ناقشquot;، بل بدا عليه الحماس لما يفعل، والسؤال هو لماذا كلّ هذا العداء من قبل الجندي لهؤلاء المعتقلين؟ لقد قالها بصراحة ووضوحٍ لأنهم يطالبون بالحرية ويتظاهرون للشهداء.

ثالثاً لم يذكر الجندي أي شيء عن جماعات إرهابية أو مسلحة، وهو أمرٌ مثيرٌ فالمفروض أنه إذا كان لديه أوامر صارمة بمتابعة جماعات إرهابية أن يذكرها قبل كلّ شيء لأنها الأولوية لديه، كذلك لم يقرّع الجندي المعتقلين لأنهم بادلوه إطلاق النار ndash;مثلاً- ولو أنهم فعلوا لكان هذا أوّل ما يقرّعهم عليه، وعدم فعله هذا دليل على أنهم لم يكونوا مسلحين ولم يطلقوا النار، وأن مشكلته الوحيدة معهم هي في مطالبتهم بالحرية وتشييعهم للشهداء ما يعني بمعنى أعمّ التظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها غالب المدن السورية والتي وصلت في الجمعة الماضية لضخامةٍ وانتشارٍ لم يحدث من قبل.

رابعاً هذا المشهد المريع أي قتل وتعذيب وتشويه المواطنين السوريين تكرر في كثيرٍ من المقاطع على quot;اليوتيوبquot;، مرةً مع جماعاتٍ من الناس، ومرةً مع أطفالٍ وأخرى مع نساء ما يعني عملاً منهجياً يقوم به الجيش، فلماذا كان الجيش السوري بهذه الصورة ولماذا اختار هذه المنهجية؟

قبل الإجابة، معلوم أن بنية الجيوش -بشكلٍ عامٍ- تتبع للبنية السياسية لأي دولةٍ، فليست بنية الجيش الأميركي مثلاً كبنية الجيش الصيني في العصر الحديث، وليست بنية الجيش المغولي كبنية الجيش العثماني في التاريخ، وهكذا.

وللإجابة فإنّ بنية الجيش السوري بدأت وطنية ثم تحوّلت لمرحلة من التشتت عبّرت عنها الانقلابات العسكرية (فقط بضعة عشر انقلاباً) ثم تحوّلت إلى بنية طائفية بعد حرب 1973 عبر خطةٍ طويلةٍ قادها الأسد الأبّ في محاولةٍ منه لإيقاف سيل الانقلابات وضمان ولاء الجيش، وأخيراً وصلت إلى البنية الحالية، وهي بنية يبدو أنها تقوم على حماية النظام -لا الطائفة- في وجه أي تحدياتٍ داخليةٍ لا خارجية.

من هنا تأتي فعالية هذا الجيش في قمع الانتفاضة والاحتجاجات في سوريا خلافاً لكل الجيوش الأخرى في الجمهوريات العربية التي اجتاحتها هذه الانتفاضات، ومن هنا تأتي كذلك محافظة النظام على وحدة الجيش فلم تحدث فيه أي انشقاقاتٍ كبرى كما جرى في ليبيا واليمن على سبيل المثال، باستثناء انشقاقٍ بدأ صغيراً ذلك الذي أعلنه حسب وسائل الإعلام المقدّم حسين هرموش ومن معه حسب تعبيره، ثم تبعه الملازم أول عبدالرزّاق طلاس والملازم مازن الزين الذي أعلن انضمامه لما سمّاه quot;لواء الضبّاط الأحرارquot; بقيادة المقدم هرموش.

يخبرنا التاريخ أنّه حين تنجح فلسفة حكمٍ، وأساليب إدارة سياسية للخلافات والتناقضات الداخلية والخارجية لمدة ثلاثين أو أربعين عاماً، فإن أصحابها وبُناتُها يصعب عليهم الخروج منها إلى فلسفةٍ جديدةٍ أو أساليب مختلفةٍ، هكذا هو التاريخ وهكذا هم البشر، في سوريا الفلسفة والأساليب تقتصر على القمع، أما في اليمن فكانت في المناورات والمؤامرات الصغيرة واللعب على مخاوف الإقليم والعالم.

تناقض الموقف الأميركي تجاه اليمن وسوريا مثير للانتباه، في اليمن لم يحدث قتلٌ في المدن بالمئات، ولم يتدخل الجيش بكل آلياته المسلحة ليقتل الناس في الشوارع، ولم يخرج شبيحة يقتلون المدنيين في كل شارعٍ وفي كلّ زقاقٍ، أما في سوريا فحدث كل هذا وأكثر، والمثير للاستغراب خروج عبارة quot;فوراًquot; التي أصبحت مشهورةً في الخطاب السياسي الأميركي تجاه المنطقة مؤخراً من هيلاري كلينتون تجاه اليمن، ولم تخرج تجاه سوريا!

غير أننا يمكن أن نقرأ في ثنايا تصريحات كلينتون في أبوظبي الأسبوع الماضي أنها تريد كياناً سياسياً ما للمعارضة السورية في الداخل أو الخارج يمكن للعالم أن يتفاهم معه أو يستند عليه أو يدعمه ليمثّل الشعب السوري، وكأنّها تلقي بشيء من اللوم على الانتفاضة السورية لتبرر موقفها السياسي الذي تقوده مصالح لم تزل توازناتها مضطربة تجاه ما يجري في سوريا.

سياسياً انتقل الملف السوري إلى مجلس الأمن، والرئيس التركي كذّب الرئيس الأسد ضمناً واتهم أخاه ماهر بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا، وربما كانت هذه مؤشراتٌ داخليةٌ وخارجيةٌ على توجّهٍ جديدٍ يتمّ رسمه للتعامل مع ما يجري في سوريا، خاصةً أن النظام لم يزل سادراً في طريقته الوحيدة البشعة.

في اليمن، وقبل التفجير الذي تعرّض له صالح، بدا واضحاً أن هدفه ليس الخروج الآمن من السلطة بل اللعب بأسلوبه القديم، فقام بمواجهات مسلحة مع آل الأحمر في صنعاء، واقتحام لقوات الأمن مع ساحات الاحتجاج في تعزّ، وقتال مع quot;القاعدةquot; في زنجبار!

بعد التفجير، وبعد رحلة العلاج إلى السعودية، ثارت أسئلة كثيرةٌ عن مصير صالح ومصير اليمن، وتبدو المبادرة الخليجية كطوق نجاةٍ أفضل للجميع، تضمن نقل السلطة بسلاسةٍ بدل الدخول في حربٍ أهليةٍ لا تبقي ولا تذر في بلد أثبت شعبه المسلّح قدرةً فريدةً على ضبط النفس وعدم استخدام السلاح.

يبدو الوضع اليمني أفضل من الوضع في سوريا، وأفق الحلّ السياسي هناك لم يزل هو الأفق الأرحب، والجهود الخليجية والدولية كلها تدفع باتجاهه، ولئن نجح في نقل السلطة بسلمية فسيكون أفضل النماذج في الجمهوريات العربية المحتجّة، حين يتجنّب مشاعر الثأر والانتقام من العهد الماضي ويتجه لبناء المستقبل.

أخيراً الجيش في سوريا أهمّ منه في اليمن، والعملية السياسية في اليمن أهمّ منها في سوريا، وعلى الرئيسين الشروع في الإصلاح لمصلحة شعبيهما.