عماد شيّا

قبل زمن، عبّر نابليون عن شعوره تجاه الصحافة بقوله انه يخشى صرير الاقلام اكثر من دوي المدافع. تبين لاحقا، قبل الثورة الفرنسية وبعدها، ان خشية الامبراطور من الصحافة كانت في محلها. اذ عندما اصبحت الصحافة تخيف الحكام استطاعت اوروبا ان تقضي على الاستبداد وتعيش عصر النهضة وتصل الى الحداثة. السؤال المطروح اليوم، في ظل الانتفاضات العربية والهجوم الذي يتعرض له الاعلام العربي المستقل نسبيا عن ارادة الحكام، هل يؤشر هذا الحراك الاعلامي الى مستقبل ديموقراطي وحداثي في العالم العربي؟
قبل الاجابة عن هذا التساؤل ينبغي التذكير بان الصحافة استحقت لقب صاحبة الجلالة، عندما اصبح الحكام يهابون صولجانها ويحترسون من محرابها، فهي من حيث ترتيب وتصنيف السلطة تأتي الرابعة، لكنها في الواقع يعتبرها كثيرون quot;سلطة السلطاتquot;، لان كل انواع السلطة تخضع لتحقيقاتها وتحليلاتها واحكامها، وبالتالي هي تتحكم بمفصل حيوي من مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتساهم بفعالية في تشكيل الرأي العام الذي تستظل المجتمعات والحكومات بظله.
مثل هذه الصحافة، صاحبة الجلالة، بالتأكيد لم تكن موجودة في البلدان العربية حيث كل ما له علاقة بالرأي ووسائل التعبير كان يعتبر لعقود، ادوات تابعة للانظمة، والصحافيون في هذه البلدان جزء من المنظومة نفسها. اليوم، قد يكون الوضع اصبح مختلفا، فالعالم يشهد ثورة متواصلة في مجال الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت العالم قرية كونية بحسب وصف العالم الكندي ماكلوهان. وبالطبع ساهم هذا التطور في كسر عزلة المجتمعات عن بعضها البعض، واصبح ما يحصل في اي مجتمع او بلد في متناول جميع من في هذا العالم.
بالطبع، استفاد العالم العربي من تقنيات العصر لا سيما في مجال الاتصال والاعلام، فاصبحت هذه التقنيات في متناول العرب حكومات وهيئات وافرادا وجماعات. وقد تكون انظمة الاستبداد والديكتاتورية هي اكثر الجهات تضررا من ثورة الاعلام، لانها ازالت الحدود بين الدول وفتحت المجتمعات بعضها على بعض، وهذا الامر بالطبع، لم يزعج او يحرج المجتمعات الديموقراطية المنفتحة بقدر ازعاجها واحراجها للمجتمعات المقفلة ـ السجون الكبيرة. ومن جهة ثانية، وفر التطور التقني والاعلامي للناس وسائل فعالة للاستعلام والتواصل الاجتماعي والحراك السياسي، اذ ليس من قبيل الصدفة جاءت تسمية الثورات العربية بثورة الفيس بوك او الاجهزة المحمولة...
لقد وفرّت التقنيات الحديثة للانظمة القمعية اجهزة متطورة لتخزين المعلومات عن المعارضين والمناوئين لها، وايضا وسائل صحافية واعلامية لطمس واقع الناس المهين والترويج للانظمة القائمة. وعلى ضفاف الاعلام الدعائي الانظمة ووسائل الاعلام العربي الرسمي، نما اعلام عربي عابر للاقطار، لديه مساحة مقبولة من الموضوعية والاستقلالية. هذا الاعلام ينفرد اليوم، وسط ظروف صعبة ومعقدة، بنقله الاصوات المدوّية والمشاهد المروعة عن المذابح والمجازر التي يتعرض لها المحتجون بوجه الانظمة المستبدة في اكثر من مكان.
ما يعطي الاعلام العربي المستقل/ العربية والجزيرة نموذجا.../ المشروعية المهنية والاخلاقية، هو الحملات العنيفة التي يتعرض لها هذا الاعلام من الحكام المنتفض عليهم مباشرة او من ازلامهم صحافيي ومحللي الزمن البائد. فالدور الذي يضطلع به هذا الاعلام العربي الى جانب قضايا الثوار والمنتفضين كبير وكبير جدا، وهو يوازي بفعاليته وحيويته قدرات اجهزة القمع والبطش ويتفوق احيانا كثيرة عليها. ومن دون شك، سيذكر التاريخ هذا الاعلام كرافعة شريفة لثورة الشعوب العربية وقضاياهم المحقة والعادلة. ومن حق هذا الاعلام اذا ما استمر في تطوّير قدراته متسلحا بمبادئه وقيمه، ان يحوز على لقب صاحب الجلالة، اسوة بالصحافة في اوروبا والغرب التي واكبت الثورة الفرنسية وأسست للحداثة.
فليتصور اي مهتم بقضايا التعبير والاستعلام او اي متابع محايد للتطورات العربية الراهنة، غياب وعدم وجود اقنية مثل العربية والجزيرة، فكيف سيكون المشهد الاعلامي العربي لاسيما في البلدان الممنوع فيها وجود مراسلين الا للوسائل الحليفة وازلام النظام؟ فالاقنية العربية المستقلة تحاول تعويض حرمانها من حق التغطية المباشرة من خلال مراسليها، بالتواصل الصعب مع شهود للاحداث من اجل ابراز الرأي المغاير لرأي اتباع النظام الذين لا توجد اية صعوبة في التواصل معهم بالصوت والصورة والتوقيت.
سيأتي الوقت لدراسة هذه التجربة الاعلامية بشكل علمي موثق وهي جديرة بها. لكن في الاجابة عن السؤال المطروح في بداية هذا المقال، يمكن القول ان تجربة الاعلام العربي في مواكبته للانتفاضات والثورات العربية الراهنة تحمل في بواطنها، قيما شبيهة بتلك القيم التي حملتها تجارب شعوب اخرى، ساهمت في انتقال تلك الشعوب الى مجتمعات اكثر احتراما للقيم الانسانية: الحرية والامن والعدالة والكرامة الانسانية، وان هذه القيم تعتبر عناصر اساسية في نهضة الشعوب وتقدمها.