رضوان السيد

تشكلت الحكومة اللبنانية أخيراً بعد مُضيِّ خمسة أشهُر على تكليف ميقاتي بذلك التشكيل. بيد أنّ الفرقاء المشاركين لرئيس الحكومة في التشكيل، ما وافقوه على أنّ هذه الحكومة لجميع اللبنانيين؛ بل أعلنوا -وعلى رأسهم الإعلام السوري وحلفاؤه في لبنان- أنّ الفضل يعودُ في ذلك إلى الرئيس الأسد ونبيه بري وquot;حزب اللهquot;. وزاد جنبلاط أنّ الأبرز في التشكيل هو هزيمة قوى 14 آذار!

والواقعُ أنّ التشكيلة الحالية كان يمكن إنجازُها منذ اليوم الأول لتكليف ميقاتي، أي قبل خمسة أَشْهُر. وقد أقنع ميقاتي الإعلامَ اللبناني والمجتمع السياسيَّ من قبل أنّ التأخُّر يعودُ للمصاعب التي يعانيها الرئيس المكلَّف مع الجنرال عون الذي يطرح مطالب غير معقولة. إنما اللافت أنّ الأخير حصل في التشكيلة على مطالبه وزيادة؛ لذا فالواقعُ أنّ quot;عونquot; ما كان سبب العرقلة، كما أنّ تنازُلَهُ ما كان سبب النجاح في التأليف. وإنما ينبغي أن نلتمس الأسباب في سوريا. إذ المعروف أنّ الأسد وصديقيه وجنبلاط وبري هم الذين تحمسوا لميقاتي منذ البداية، وقدّموه على عمر كرامي الذي اضطُرّ quot;حزب اللهquot; من أجل إرضائه إلى الإصرار على توزير ابنه الذي تقلد حقيبة الشباب والرياضة في حكومة ميقاتي أخيراً لتشكيل حكومة اللون الواحد في لبنان.

والواقع أنّ النقاش ظهر حول الدولة اللبنانية الفاشلة، خلال الحرب الأهلية اللبنانية. واستند القائلون بذلك إلى النزاعات السياسية والقتالية الطويلة الأمد التي عرفها النظام اللبناني منذ أواسط الخمسينيات. والمعروف أنه في عالم 1985 اجتمع زعماء ميليشيات الحرب الأهلية بدمشق (وهم قائد القوات اللبنانية، ورئيس حركة أمل، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي)، وأعلنوا عن اتفاقٍ لإنهاء الحرب، وquot; إصلاحquot; النظام. واعترض على ذلك الاتفاق فريقٌ من القوات والبطريرك الماروني ورئيس الجمهورية أمين الجميل وزعماء السنة؛ فأدّى ذلك إلى سقوطه. ورأى المحلِّلون يومذاك أنّ الفشل يعود إلى أنّ الاتفاق جرى بين الميليشيات على حساب الدولة، وإلى أنّ السوريين لحظوا في ذلك مصالحهم في التوطُّن داخل الكيان وفي تلافيفه. وبدأت المرحلة الثانية في مناقشات فشل الدولة اللبنانية في أواسط التسعينيات حين أصرَّ السوريون على مخالفة الدستور، والتمديد للرئيس الهراوي ثلاث سنوات. وهو الأمر نفسه الذي فعلوه مع الرئيس لحود حين أصرُّوا أيضاً على التمديد له عام 2004. وقال الناقدون وقتَها إنّ السوريين أرادوا استنساخ نظامهم في لبنان، حيث يجري تخليد الرئيس في سوريا، بل وتوريث الرئاسة داخل الأُسرة. وهذا quot;الفشلquot; في مُراعاة الدستور اللبناني من جانب الطبقة السياسية اللبنانية، تحت ضغوط التدخل السوري، كان وراء صدور القرار الدولي رقم 1559 عام 2004 والذي نصّ على ضرورة انتخاب الرئيس بحرية وبحسب الدستور وبدون تدخلات، وعلى ضرورة جلاء الجيوش الأجنبية عن أرض لبنان (الإسرائيليين والسوريين)، وضرورة تجريد الميليشيات من السلاح، لبنانية أم غير لبنانية.

ومع تشكيل حكومة ميقاتي أخيراً تبدأُ المرحلة الثالثة من مراحل فشل الدولة أو النظام اللبناني. فالميليشيات المسلَّحة اللبنانية وغير اللبنانية ما تزال موجودة، والسلطات والقوى الرسمية اللبنانية لا تسيطر على كامل التراب اللبناني، وقد دفع الأسد وquot;حزب اللهquot; إلى تشكيل الحكومة بالشكل الذي ظهرت عليه. فالأسد الذي قرر مواجهة المحتجين في سوريا، هو الذي قرر إقامة حكومةٍ لبنانيةٍ على هذا النحو. وكان قد تريَّث بعد تكليف ميقاتي، رجاء أن يساومه العرب والغرب على حلٍ وسط، وهذا ما حصل، فقرر مع طهران وquot;حزب اللهquot; خوض معركة كسر عَظْم في سوريا ولبنان. وعندما فعل ذلك، قصد معاقبة العرب والأتراك الذين تدخلوا في الأحداث السورية، وطالبوه بالإصلاح قبل فوات الأوان.

إنما إذا كان الأسد يخوضُ معركة كَسْر عظْم مع شعبه ومع العرب والأتراك والغربيين، فما هي مصلحةُ الطبقة السياسية اللبنانية في الوصول إلى حافة الهاوية. إنّ هذه الحكومة تربط لبنان بالنظام السوري مجدداً؛ في وقتٍ ما عاد فيه ذلك النظام آمناً لا من شعبه ولا من مُحيطه. ثم إنها تضعُ لبنان ومؤسسات الدولة تحت مظلة quot;حزب اللهquot; الذي يُعتبر تنظيماً إرهابياً في نظر المجتمع الدولي. وهذان الأمران (التبعية لسوريا المأزومة، ولحزب الله المستفز) يجعلان من تصنيف لبنان ضمن الدول الفاشلة أمراً قريباً وبمتناول اليد. وهذا فضلاً عن المعالم الأُخرى للدولة الفاشلة، مثل وجود التنظيمات المسلَّحة، والتفكك المتزايد للمؤسسات، والتشرذم والتشظّي والصراع على كل شيء، ومن ضمن ذلك الخلاف على صلاحيات السلطات الثلاث.

إنّ هذا الفشل الطويل والمتمادي في إدارة الدولة والنظام السياسي، ومن ضمنه تشكيل الحكومة الأخيرة، أدّى إلى تأزُّمٍ يتفاقمُ في المجتمع، فضلاً عن الدولة التي كان من المفروض أنها تُريحُ المجتمع وتحلُّ مشكلاته بدلاً من زيادة تأزيمه. فالناس إنما ينشؤون دولاً وأنظمةً لصون مصالحهم الوطنية والقومية، ولتحسين ظروف حياتهم. والمصالح الوطنية غير مصونة، ما دامت سوريا هي التي تشكّل حكومات لبنان منذ قُرابة الأربعين عاماً. كما أنّ المصالح القومية والسيادية غير مصونة، ما دام quot;حزب اللهquot; يقول إنه يحمي لبنان من العدوان الإسرائيلي المستمّر، وليس الجيش اللبناني. فالطريف أنّ البيانات الوزارية صارت تتضمن نصاً يقول إنّ الجيش والشعب والمقاومة، هي الجهات التي تُدافعُ عن لبنان، وليس الجيش وحده والقوى العسكرية والأمنية الأُخرى. وإذا وصلْنا إلى بندquot; تحسين حياة الناسquot;؛ فسنجد أنّ اللبنانيين ناجحون على المستوى الفردي بشكلٍ عام، لكنهم ظلُّوا غير قادرين على بناء الدولة المستقرة والقوية والعادلة، بسبب استشراء النزاعات ضمن النُخَب السياسية من جهة، والتدخل السوري بلبنان منذ قُرابة الأربعين عاماً، وصعود ظاهرة quot;حزب اللهquot; التي حوَّلت لبنان إلى ساحة صراعٍ في المحيطين الإقليمي والدولي.

والمؤكَّد أنّ هذه الحكومة لن تُنجز شيئاً لأنّ همَّها كان وما يزال الانتقام من quot;الخصومquot; بالداخل، وتخريب ما تبقّى من مؤسَّسات باعتبارها من إنجازات اتفاق الطائف الذي لا يحبه الجنرال عون، ودعم النظام السوري في أزمته المستشرية وصُنع منفذ له للنجاة إن أمكن، وإيقاف الانهيار في مناطق النفوذ الإيراني التي تحاصرها الجماهير العربية. وهكذا لا يبقى غير أملٍ واحد: أن تكون الحكومة العتيدة هي آخِر quot;أفضالquot; نظام الأسد علينا وعلى العرب!