عزمي عاشور - العرب

إذا كانت ثورة الشباب استطاعت بقوتها أن تقتلع نظام مبارك من السلطة بعد ثلاثين سنة من الحكم الديكتاتوري، فهل تكون لهذه القوة الخفية تأثيراتها الإيجابية على عقلية النخبة والقوى السياسية الأخرى، التي تتباين فيما بينها من أقصى اليمين لأقصى اليسار، ليصبحوا غير ما كانوا عليه في الماضي من الاختلاف الشديد المتباين فيما بينهم، حيث بالتأكيد أن هناك قوى وطنية متعددة ما بين يسارية وإسلامية قد لا تتناسب أفكارها مع المرحلة المقبلة والتي تحتاج لإعادة تفكير وتغيير من رؤيتها مع تعاطيها مع الواقع الجديد، وفقا للآتي:
أولا: الإسلاميون بتنويعاتهم المختلفة ما بين إخوان وجماعات إسلامية وسلفيين يحتاجون أن يغيروا من أحاديثهم المغلقة، وأن الإسلام لديه حل لكل القضايا ويخرجوا من هذا الإطار الضيق في إطار قبول الآخر، ليس وجوديا وإنما فكريا، والتفاعل والتعامل معه انطلاقا من هذه الأرضية، فلا يمكن أن يكون واقع هذه القوى بعد الثورة هو التعامل مع نظرة أحادية للوجود من خلال منظور أن الإسلام هو الحل، وهو ما دحضته هذه الثورة التي لم تكن بملايينها ملكا لأحد، فهي كانت ملكا لكل من خرج فيها، اليساري والشيوعي والإسلامي والليبرالي ومن ليس له توجه فكري أو سياسي، وبالتالي الجميع اشتركوا في مبادئ عامة إنسانية تطالب بالكرامة والعدالة والمساواة والحرية مبلورةً -هذه المطالب- في المطالبة بإسقاط النظام السياسي الذي حجب عنها هذه الحقوق.. ومثل هذه المطالب ما هي إلا مبادئ عامة مرتبطة بالفطرة ولا يمكن أن تكون حكرا لفئة على حساب أخرى.. وقد يكون الاختلاف فقط في طريقة التحقيق أو في الوسيلة، فهناك من يرون أن الإسلام هو الطريق الذي يحقق هذه القيم وهناك من يعترض على ذلك بحكم الخطاب، الذي يرفعونه بحجرهم على عقول الجميع عندما يحددون الحل في الإسلام الذي هو بطبيعته ليس حكرا على هذا الفصيل الذي ينسبون أنفسهم إليه.
ثانيا: أيضا أصحاب الفكر اليساري قد يحتاجون إلى إعادة تغير رؤيتهم للواقع. فإذا كانوا يرون في الاشتراكية وتحقيق المساواة بين الجميع طريقا لتحقيق هذا المبدأ فتجربة النظم الاشتراكية السياسية لم يكن سجلها مشرفا فيما يتعلق بكرامة الإنسان في الكثير من الدول، فليس عن طريق تحقيق المساواة بين الجميع بمعناها المبدئي تتحقق العدالة بل قد يكون في ذلك تكريسٌ للظلم، فمبدأ المساواة عند تقنينه يجب ربطه بقيمة العدالة فمن يجتهد ويعمل لا يمكن أن يتساوى مع من لا يعمل، ومن هنا يجب التمييز وفقا للعمل والجهد المبذول، فالقيمة تتحقق هنا فقط عند إتاحة الفرصة وليس في توزيع العائد على الجميع بشكل متساو.. وبالتالي فالدافع لتحقيق نمو قد ينعدم ويحدث العكس تماما بحدوث ركود وتدهور وهو ما حدث في المجتمعات الاشتراكية في السابق.
ثالثا: رغم أن ثورة الشباب فيما كانت تقوم به كانت تميل أكثر للفكرة الليبرالية وفكرة الحرية والقيم المرتبطة بها من احترام كرامة الإنسان والثورة على الحاكم وإنهاء العقد الاجتماعي، الذي تخلى فيه عن الواجبات التي كان يقوم بها انطلاقا من كونه الحكم تجاه مجتمعه.. إلا أن هذا لا يعني أن الثورة انتصرت للفكر الليبرالي، فالقضية لم تعد انتصار أصحاب تيار على آخر، وإنما هي باتت تكمن بالأساس في المقدرة على بناء الشكل المؤسسي والقانوني المناسب الذي عن طريقه يتم تحييد النخب أياً كانت دينية أو سياسية، وأن تكون هذه المؤسسات بقوانينها أدوات حقيقية لتحقيق قيم العدالة والمساواة بشكلها الحقيقيhellip; فالكل قد يكون فاعلاً، أيا كان فكره، سواء أكان ليبراليا أو يساريا أو متدينا بمرجعية إسلامية أو مسيحية، ما دام انطلق من رؤية غير محتكرة للعقول وللمعرفة وجاهزة بالحلول قبل أن تعرف المشكلة، وهو الأمر الذي برهنت عليه ثورة الشباب بسقوط الفرضيات المطلقة سواء كانت سياسية أو دينية، وعندما أوجدت الإطار الذي استوعب حالة التنوع السياسي والديني للشباب، ووحدهم تحت قيم ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة بعيدا عن قيم الوصاية والمتمسحين بالمرجعية الدينية التي بدأ صوتها يعلو بعد الثورة، ومن هنا تبدو أهمية مرجعية مدنية الدولة المصرية ممثلة في دولة القانون هي الحل لحالة صراع المرجعيات هذه الذي باتت ملامح سلبيات تظهر على السطح من زرع الفتنة بين المسلم والمسيحي في مجتمع ندر أن تتواجد فيه مثل هذه الثنائية.