تركيا أمام قرارين: إما دعم الأسد أو دعم laquo;الإخوانraquo;
هدى الحسيني
الشرق الأوسط
قبل عشر سنوات لو أن أحدا قال إن تركيا الدولة المتباهية بعلمانيتها المتجذرة ستحكمها يوما حكومة إسلامية، لاعتبر ذلك نكتة سمجة. عام 2002 عندما وصل حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى الحكم قرر سياسته الخارجية على أساس laquo;العثمانية الجديدةraquo;، لكن تركيا ورغم معرفتها العميقة بالدول التي كانت يوما ما جزءا من الإمبراطورية العثمانية، فوجئت مثل الآخرين بسلسلة الانتفاضات التي هزت العالم العربي خلال الأشهر الستة الماضية، وكانت مفاجأتها الكبرى سوريا، ويبدو أن تركيا تقترب من الاقتناع باحتمال نشوب حرب أهلية طويلة في سوريا قد تنتهي بالإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، رغم أن من تابعوا خطابه الأخير يوم الاثنين الماضي، خمنوا، أنه بعد غياب طويل، لا بد أنه حصل على ضمانات ما من تركيا، أتاحت له الظهور كالقادر على استرجاع زمام الأمور والسيطرة على المفاصل الدقيقة في الوضع.
من المؤكد، أنه بعد الانتهاء من الانتخابات يريد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن يعيد تقييم الدور التركي في المنطقة.
كل الدول تتأثر بأجندتها المحلية، وكان أردوغان أشار إلى أن laquo;سوريا قضية محلية لتركياraquo;.
الإسلاميون في سوريا كانوا سعداء بنتائج الانتخابات التركية، لكن، لم يثبت أن وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو، الذي زار سوريا في السنوات الأخيرة أكثر من 60 مرة، قد نجح في إقناع كل القيادة السورية بإعطاء مساحة لـlaquo;الإخوان المسلمينraquo; السوريين ليشاركوا في الحكم.
وهذا مثل واضح على المشكلات التي تعاني منها سياسة تركيا الخارجية التي كانت تطمح إلى laquo;صفر مشكلاتraquo; مع كل جيرانها. الآن ستواجه مشكلة واضحة مع سوريا، لأنها من جهة دعمت نظام الأسد وحاولت تثبيته، حتى فوجئت بالاضطرابات. الآن تواجه اضطرابا من نوع آخر. laquo;الإخوان المسلمونraquo;، وآخرون لا يريدون بقاء النظام السوري. تركيا لا تستطيع أن تكون صديقة للطرفين، وعليها بالتالي أن تقرر إلى جانب أي طرف ستقف.
من جهة، لا تريد أن تنفر نظام الأسد، في حال نجح فيقمع الانتفاضة ضده، وهناك من يتوقع بأنه سيفعل، ومن جهة أخرى، لا تريد أن تدعم نظاما مستبدا ينهار في وجه الإخوان المسلمين.
ليس لتركيا تلك laquo;الرؤية الخاصةraquo; في المنطقة. وهي، رغم التركيز على كل تصريح يصدر عن قادتها، ستفقد دورها كبطل للقضايا الإقليمية كالصراع العربي - الإسرائيلي. كان ذلك الدور أسهل لها أن تلعبه عندما كان العالم العربي ميتا سياسيا. اليوم تعود مصر، وتريد أيضا أن تستعيد دورها الدبلوماسي القيادي.
مع بدء الأحداث في مصر، طالب أردوغان بتنحي الرئيس حسني مبارك. لكن تركيا - أردوغان ترددت كثيرا في اتخاذ موقف صارم في ليبيا، فهناك استثمارات تركية بمليارات الدولارات، وبسبب الانتقادات التي تعرض لها، كان له موقف إدانة سريع لخرق حقوق الإنسان في سوريا، رغم أن العلاقة التركية - السورية ازدهرت أثناء قانون الطوارئ السوري الذي استباح لأكثر من ثلاثين سنة حقوق ثلاثة شعوب، إذا جاز التعبير، الشعب السوري والشعب اللبناني في ظل الوجود السوري العسكري والأمني هناك والشعب الفلسطيني.
مال أردوغان إلى لعبة التوازن الدقيق. كان يريد أن يجس نبض تطور الأمور. سمح للإخوان المسلمين السوريين بعقد لقاء فوق الأرض التركية، ثم سمح لكل المعارضين السوريين بعقد اجتماعهم الأول في أنطاليا في وقت استمر يحث الأسد على الإصلاح. عقد ذلك الاجتماع تحت عنوان laquo;التغيير في سورياraquo;، كان يمكن أن يجن جنون أنقرة، لو أن دولة مجاورة لتركيا سمحت للأحزاب المعارضة التركية بأن تعقد اجتماعها تحت عنوان: laquo;التغيير في تركياraquo;. سمحت تركيا بعقده مع تحذير واحد محدد، لا يُسمح بدعوة أي حزب كردي للمشاركة. ولبت المعارضة السورية تلك الرغبة التركية. داود أوغلو أصر على أن أنقرة لم يكن باستطاعتها منع انعقاده، لأنها دولة laquo;حرة وديمقراطيةraquo;.
رد الأسد على أنقرة، بأن هذه اللعبة أو المناورة يقدر عليها البلدان. دعا ممثلي الأحزاب الكردية التي مُنعت من المشاركة في اجتماع أنطاليا، لزيارته في دمشق واللقاء معه حول فنجان من القهوة التركية. وُجهت الدعوة إلى 12 حزبا كرديا بينها الحزب الممنوع، حزب العمال الكردستاني الذي له فرع تركي، وحزب الوحدة الديمقراطي. كل هذه الأحزاب رحبت بدعوة الأسد على أن تقدم له اقتراحا بإقامة منطقة حكم ذاتي كردية على الحدود مع تركيا.
حتى الآن لم يحدد الأسد موعدا لذلك الاجتماع. هو أراد أن يدفع أنقرة إلى التريث في مبادراتها وعدم محاولة لي ذراعه.
الموقف التركي تجاه سوريا، شبيه بالموقف الأميركي؛ الاثنان لا يريدان سقوط نظام الأسد، لكنهما قلقان من عدم قدرة النظام على مبادرات الإصلاح. تأكد هذا بعد خطاب الأسد يوم الاثنين الماضي، عندما دعا الرئيس باراك أوباما وأردوغان الأسد إلى القيام بإصلاحات فورية ومن دون تردد. تفتيت الفسيفساء العرقية المعقدة في سوريا يخيف تركيا، فهو قد يزيد من عدد اللاجئين السوريين فوق أراضيها. ثم إنها قلقة من عودة نشاط حزب العمال الكردستاني، ورغم أن أنقرة هي الشريك التجاري الأول لدمشق، (التجارة مع سوريا تصل إلى 2.5 مليار دولار) فإن نفوذ أنقرة على دمشق أقل فاعلية من نفوذ طهران التي تدعم بقوة قمع الأسد لمعارضيه.
كذلك تشعر أنقرة برعب من حرب أهلية مفتوحة في سوريا قد تصل إلى المناطق التركية ذات الكثافة العلوية. وهي تصر على أن الأسد رجل مخلص إنما محاط بذئاب راسخة داخل جهاز الدولة، وقد صب أردوغان جام غضبه على ماهر الأسد.
انتهى أردوغان من تحقيق الفوز الثالث لحزبه، وهذا أمر تاريخي فعلا، لكن مشكلات جديدة شرعت أبوابها في وجه تركيا. والنوم التركي laquo;على حريرraquo; قد يتحمل مسؤوليته داود أوغلو وسياسته laquo;العثمانية الجديدةraquo; التي اعتقدها ستصل إلى أبعد من المنطقة التي تحيط بتركيا القائمة سياستها الخارجية على laquo;صفر مشكلاتraquo;. ليس معروفا ما إذا كانت العلاقة بين أردوغان وأوغلو ستتوتر في مرحلة مقبلة، لأن الأحداث في العالم العربي نسفت سياسة أوغلو التي بناها على أن الحدود العربية مفتوحة أمام الاستثمارات التركية، وأن السياح العرب سيملأون الخزينة التركية. وكانت تركيا - لإنجاح هذه السياسة - تريد تخفيف حدة التشنج السُنّي - الشيعي في دول مثل العراق، وكان أردوغان أول زعيم سُنّي يستقبله آية الله علي السيستاني الزعيم الديني الكبير. لكن بروز المعارضة السنّية للنظام العلوي في سوريا، وتخلي سُنّة العراق عن حكومة نوري المالكي، قد ينسفان بدورهما هذا الطموح.
العراق بدوره يشكل عبئا على تركيا، فالأميركيون سينسحبون حتما منه. طلبت الولايات المتحدة من العراقيين دعوتها للبقاء، لكنهم رفضوا. عندما سينسحبون سيقع العراق تحت النفوذ الإيراني. وقد فشلت الجهود التركية مع إيران لحل خلافها مع المجتمع الدولي بسبب برنامجها النووي. فإيران تريد أن تهرب من مشكلاتها الداخلية العميقة، بملء الفراغ الأميركي في العراق بأي ثمن. الأتراك لا يريدون أن يروا ذلك، وفي الوقت نفسه لا يريدون أن يتورطوا عسكريا - في العراق - أبعد من المناطق التي يسكنها الأكراد. ثم هناك العلاقات الاقتصادية مع إيران. إذن، هناك قرار حاسم يواجه الأتراك في حال الانسحاب الأميركي من العراق.
تركيا تفضل سوريا جارا ضعيفا تستطيع أن تفرض هيمنتها عليه. والشعوب في كل العالم، أثبتت أنها في البداية تقبل بمعادلة: عدو عدوي صديقي، ثم تستقوي وترفض أي تدخل أو وجود أجنبي فوق أراضيها. هناك مشكلات حدود بين تركيا وسوريا، ومشكلات مياه، الأسد أعطى موعدا لبدء برنامج الإصلاح نهاية أغسطس (آب)، وهو تاريخ الانسحاب الأميركي من العراق. المحور الإيراني - السوري قد يستعيد حيويته السلبية في العراق. وهذا يعني أن أبواب الفوضى مشرعة أمام كل دول المنطقة بما فيها تركيا، خصوصا أن أميركا مشغولة بانتخاباتها وأوروبا غارقة في أزمة مالية مخيفة.
الربيع العربي: تقاطعات الدور الخليجي والتركي
ظافر محمد العجمي
العرب القطرية
laquo;قحطةraquo; شخصية محورية في المسلسل الكويتي laquo;درب الزلقraquo; إنتاج 1977م، ولجهله صارت تصرفاته عائقا أمام طموحات أبناء أخته خلال موجة توزيع الثروة عبر تثمين المنازل في منتصف القرن الماضي بعد اكتشاف النفط، حين تحول المجتمع من الفقر المدقع إلى الغنى الفاحش. ولأن الرمز أرقى معاني الإدراك للواقع فقد تحولت تلك الشخصية إلى رمز في الثقافة الخليجية. وعلى شاكلتها كرمز لمعنى مغاير ظهر المسلسل التركي laquo;نورraquo; في 2008م وكانت الشخصية المحورية laquo;محمدraquo; أو laquo;مهندraquo; كما في النسخة العربية فتكشف فجأة على غير ترتيب عمق الفراغ العاطفي الذي تعيشه مجتمعاتنا نتيجة الكرم العاطفي من laquo;مهندraquo;، الذي تعدى حدوده على مضيق البسفور ليصل إلى خِدر الغادة الحسناء هنا.
لقد وصل الطموح السياسي التركي في عالمنا العربي إلى خدر الحسناء العربية في صورة تتجاوز المسموح به حتى في أحلك فترات الاتكالية في العلاقات الدولية. لقد أصبحت لها مصالح في عالمنا العربي بدرجة أباحت لرجب طيب أردوغان القول laquo;إن ما يجري في سوريا مسألة داخلية تركيةraquo;. بل إن صحيفة الإيكونوميست اقترحت قبل سقوط مبارك النموذج التركي كأفضل الحلول لتجاوز أزمة النظام المصري. صحيح أن الصعود التركي على المسرح العربي يجري نتيجة فراغ قوة قيادي جراء تشظي المحور الخليجي المصري السوري بعوامل إيرانية، لكن دور تركيا كرادع للطموح الإيراني لا يعتبر مسوغاً لتدخلها. ففي عرف العلاقات الدولية لن تكون هذه laquo;الفزعةraquo; التركية مجانية، بل إن بوادر اعتبار بلاد الشام والعراق كمناطق اهتمام ثم نفوذ قد أخذت طريقها مؤخراً لخطابات المسؤولين الأتراك.
لقد جاء الربيع العربي بفرصة لعب من خلالها الخليجيون دوراً يناسب القوة المتاحة لهم، وأدت لمبادرات خليجية ناجحة، لكن ردة فعل بعض كتل الربيع العربي كانت محبطة لآمالنا. فالارتياح للدور التركي في سوريا مثلا لا يقارن بالتشهير والرفض للدور الخليجي، ومثله الموقف المصري بدرجة ما، واليمني بدرجة أشد، رغم أن ما صنع الحداد ما زال قائما بين أنقرة ودمشق، بدءاً من الإسكندرونة مرورا بالأكراد وحتى مشاكل المياه. لقد نظر بعض العرب للدور الخليجي وكأنه تهديد، ومؤامرة غربية نحن أصابع تنفيذها، وفي ذلك شطط عن حقائق دامغة، فتركيا هي حليفة إسرائيل رغم التحصيل الاستراتيجي المتواضع لسفينة الحرية، حيث ما زال أهلنا في غزة يكابدون الأمرين بين إدعاءات تركية وتردد مصري على المعابر. كما أن أنقرة هي عضو الناتو وليس نحن؛ فكيف أصبح حرص أنقرة أكبر من الحرص الخليجي؟! وأين الخطوط الحمراء التي شاهدتها أنقرة وتراجعت عنها، ويتهمنا الإخوة العرب بتجاوزها، فنحن في الخليج لا نسابق تركيا في جني الثمار، فالتعامل بفعل الطموح ليس كالتعامل بفعل الواجب. وإذا كنا نعاني من التحديات بينما تستمتع أنقرة بالفرص فبالإمكان تجاوز هذا الخلل لو أردنا عبر تكييف السياسة الخليجية للتعاطي مع الفرص بحجم الهلع من التحديات. وتكمن قوتنا لكسب الفرص عبر أروقة الجامعة العربية التي كان لوزنها دور في استصدار قرارات أممية غيّرت وجه بلدان عربية عدة بمحركات خليجية كما في ليبيا.
إن ما يثير القلق هو أن تركيا تختبر العرب بدهاء في علاقاتها الإقليمية الراهنة، تمهيدا لخطوة قادمة لن تكون غير الهيمنة، ونتيجة خلل ما أصبح laquo;درب الزلقraquo; كالربيع العربي بتحولاته الكبرى، ففقد البعض وضوح الرؤية، وترسخ لدى البعض الآخر أن الخليجيين هم laquo;قحطةraquo; الرمز المتواضع الذي كان يصنع ويصلح ويبيع الأحذية، غير قادر على تغيير مسار الأمور في محيطه الأسري إلا بالسلبية، أو التدخل في شؤون الآخرين بالشماتة والاستهزاء ما دفع أبناء أخته لممارسة عقوق تحقيره بل وضربه، في حين ظهر الأتراك وهم الوسيم laquo;مهندraquo; بوضوحه وصدقه وتضحيته.