أحمد عبدالملك

ما زالت الدماء تسيل في ليبيا واليمن وسوريا !. وما زال القتل والسجن سيد الموقف بين الشعوب وحكوماتها في تلك المناطق! وما زال الإعلام الرسمي في تلك الدول بعيداً جداً عن واقع الحال، حيث يقدّم للناس الورود والوجوه المبتسمة والأفكار الخاطئة ، بينما تنقل الشعوب عبر الهواتف النقالة مشاهد القتل والسحل وتجاوزات حقوق الإنسان التي ترتكب بحق الشعوب المُطالبة بحقوقها المشروعة.
ولأن بعض الحكومات العربية لم تعترف يوماً بحق المواطن، ولعل أهمها حقه في المواطنة الصالحة ! فإنها لم تعامله كإنسان يستحق منها الرعاية والأمن والحماية. ذلك أن تلك الحكومات كانت تعتبر المواطن quot; خروفاًquot; من القطيع، يحق لها متى quot; تُسمنّةquot; ومتى تقدمه للذبح !. وصار أن عاش هذا المواطن ذليلاً وخائفاً وجباناً لا يستطيع رفع رأسه، ولا المطالبة بحقوقه، بل ولا التظلم لما يناله من عَسف على أيدي أتباع النظام الذين لا يعترفون إلا بالقمع وسيلة لإخافة هذا المواطن وجعله ينتظر السكين في يوم غير معلوم ، وهم في حالة تودد للحاكم الظالم.
لقد هدأت الثورات في البلدان المتقدمة لأنها أقامت العقد الاجتماعي بين الدولة والإنسان، ولم يعد هنالك داع للثورات، كون الإنسان قد آمن أنّ حقوقه مرعية، وأن هناك جهات محايدة تعترف بحقوقه كاملة وتدافع عنها. لذلك تفرغت الأنظمة إلى إسعاد الإنسان، وتنمية قدراته، وحفظ أمنه وسلامته وتفرغ الإنسان إلى البحث العلمي والاختراعات والفنون والآداب، ما أثرى البشرية وساعد على التخفيف من ويلات الطبيعة، وأثرى العقول بالجديد والمثير في عالم الإبداع.
أما في الدول العربية المنكوبة بالأحزاب المتطرفة، والنظرات الأحادية التي لا تعترف بالآخر، والتي تعتبر البلدان quot; عِزباً quot; خاصة لها، وأن كل ما على أرض وفي بحر وفي سماء تلك البلدان ممتلكات خاصة بها، فإنها قد حرّمت المواطنة على شعوبها، ولم تعترف بحقوق تلك الشعوب، ولم يكن يهمها كيف تعيش وكيف تفكر !. ولأن العالم محكوم بنواميس وقرارات دولية، وتنشط المؤسسات الحقوقية الدولية والجمعيات المدافعة عن حقوق الإنسان في البحث والتقصي عن حالات الانتهاك لحقوق الإنسان أينما كان، فقد فوجئت العديد من الأنظمة ndash; حتى تلك التي تستند على صدر الولايات المتحدة ndash; أن العالم يطاردها ويقف لها بالمرصاد، وأن العالم قد آزر الثورات التي اندلعت طلباً بعدالة اجتماعية وقيام دولة القانون وضمان حق المواطنة .
لقد عاش المواطن في تلك البلدان بقوانين تحمي النظام ولا تحميه !. وخُصصت الوزارات والهيئات لبقاء النظام لا بقاء المواطن !. لذلك كان من أولى خطوات تلك الأنظمة أن أقامت قوانين الطوارئ التي استمرت أكثر من ثلاثين أو أربعين عاماً ، ليس لحفظ البلاد من خطر خارجي، بل لقمع المواطن. كما أنها تفننت في التسلح ونوّعت في quot; أرتالquot; الحماية ليس ضد العدو القابع على حدودها، بل لتوجيه الدبابات والرصاص الحي لصدور أبنائها الذين يساهمون في بناء بلدانهم وحفظ الأمن فيها!. وهكذا نجد أنه عندما غابت المواطنة حضرت الثورات .
ولأن غياب المواطنة كان حاضراً في تلك البلدان، فإن أية هزة سياسية كانت كفيلة بتحول المواطن الخائف المتردد الصامت إلى مارد يخرج من القمقم ويعلن الثورة حتى لو كلفه ذلك حياته. بل شاهدنا الملايين من الشباب والأطفال والنساء يخرجون إلى الشوارع وقد كتبوا على وجوههم ( ارحل ) !. ويقصدون به الرئيس . كما شاهدنا بعض الرؤساء الذين يبثون الروع والخوف في قلوب شعوبهم، وكانت تحكمهم ترسانات المخابرات والحرس الجمهوري، يتضرعون للشعوب المنتفضة أن يسمحوا لهم بالبقاء ولو ستة شهور في الحكم، ولكأنهم لم quot; يشبعواquot; حكماً وظلماً وقسوة خلال ثلاثين عاماً. ومازالت البقية الباقية، التي تتفنن في قتل شعوبها، تراهن على الوقت، ولا تريد التزحزح عن الكرسي، بل وبعضها بين الحياة والموت وهم يخلعون أقسى الألقاب ويرمون أشد النعوت والسباب على شعوبهم المنتفضة.
ماذا كان سيضير تلك الأنظمة لو أنها خافت الله، وحققت المواطنة الصالحة لشعوبها!؟ ونحن ندرك أن كل الدساتير العربية تنص على أن الشعب مصدر السلطات، وأنه أغلى الثروات، وأنه الأحق في الرعاية والأمن والحماية !؟ ولكن انظروا ماذا حصل لتلك الشعوب التي انخدعت في quot; ثوريةquot; أنظمتها ؟! وفي وقوفها على خط المقاومة الأول ضد العدو الواحد !؟. بعض تلك الأنظمة كانت تحارب بالكلمات، مثل نظام القذافي، الذي حارب طواحين الهواء الأمريكية سنيناً طويلة ثم نكس الرأس لهم!؟ ومنهم علي عبد الله صالح الذي استهزأ بالخليجيين ووصفهم بالمتآمرين عليه، في الوقت الذي تنقل الكاميرات من بلده الملايين وهم يطالبونه بالرحيل، وتذكره الهيئات الدولية بأنه أوصل بلاده إلى حافة الدولة الفاشلة !؟ وقد تنكر لكل المساعدات والمواقف الإيجابية والإنسانية التي وقفتها دول مجلس التعاون مع بلاده. وكذلك محنة الشعب السوري، الذي انتظر طويلاً عبور الدبابات نحو تحرير الجولان، فإذا بتلك الدبابات تمر فوق أجساد الشعب بلا رحمة، وإذا بالرصاص المخزّن ليوم التحرير، يخترق أجساد الأطفال المسالمين الذين حاولوا رفع صوتهم لنيل حقوقهم.
ماذا كان سيضير تلك الأنظمة لو أنها سمحت بالمواطنة الحقة ! وعدّلت من قوانينها لتساير واقع الحال، وتلتقي مع مطالبات الشعوب العادلة، بأن يكون لها صوت ورأي في إصلاح الاعوجاج في بلدانها، بعد أن جرّبت نظام الحزب الواحد أو الزعيم الواحد أكثر من أربعين عاماً ؟! ماذا سيضير تلك الأنظمة لو أنها سمحت بالتعددية، وفتحت البلدان على الإعلام الحر، في وقت اخترقت فيه الإنترنت وملحقاتها كل الحواجز وركبت فوق كل الممنوعات ؟! ماذا لو كان هنالك قضاء نزيه ومستقل؟! وعدم استئثار بالثروة للرئيس وأركان حكمه، في الوقت الذي يتدهور اقتصاد البلاد، ويصل الشعب إلى خط الفقر، ما سبب هجرته إلى الخارج بحثاً عن رغيف الخبز، الذي أصبح عملة نادرة في بلدان زراعية وأراض خصبة !؟
إن جلوس النظام مع الشعب خير وسيلة للوصول إلى أرضيات مشتركة لا يكون الخوف ضمنها، ولا الظلم ولا الاستكانة !. بل الاحترام المتبادل والمشورة والتعددية!. كما أن صبر الشعوب قد يطول، تماماً كما هو صبر المؤسسات الدولية على الممارسات غير الإنسانية التي تلحق بالشعوب المنكوبة بحكومات توتاليتارية ظالمة لا ترى إلا وجهها في مرآة الوطن، لقد فات الوقت على تلك الأنظمة، وما بقاء بعضها يتصدى لصدور الشعوب إلا دليل فاضح على عدم إيمانها بقضية المواطنة التي تستحقها تلك الشعوب، وهي إمعان واضح في التشفي وتدمير البلدان من أجل الكرسي.