السيد ولد أباه


quot;عمر الشارنيquot; فيلسوف تونسي يدرس في إحدى كبريات الجامعات الفرنسية، وقد عرف بأعماله الرائدة حول فلسفة عصر الأنوار وتاريخ العلوم في العصور الحديثة، وعلى يده تتلمذت في سنوات التحصيل الأولى في الجامعة واستفدت منه أساس تكويني الفلسفي الجامعي. أصدر الشارني مؤخراً بالفرنسية كتاباً مثيراً بعنوان quot;الثورة التونسية:الإمساك بزمام التاريخquot;، يشكل قراءة فلسفية عميقة للثورة التونسية وشهادة فكرية سياسية على هذه الأحداث المحورية التي غيرت وجه عالمنا العربي.

يبدأ quot;الشارنيquot; كتابه بحفر فلسفي متعمق في مفهوم الثورة ودلالته في السياق التونسي والعربي. وعلى عكس ما سار إليه الباحثون في الدراسات الاجتماعية والسياسية بالتفسير البعدي للثورات العربية بكونها آثاراً متوقعة أزمات سياسية ومجتمعية خانقة، يرى quot;الشارنيquot; أن الثورة لا تكون أبداً منتظرة أو متوقعة، ولا تخضع لمبدأ السببية التاريخية، وإنما هي تحول جذري خارج التاريخ والعقل التعليلي والتخطيط الاستراتيجي.


إنها على عكس التصورات الميكانيكية الغائية - الموروثة عن البراديغمات العلمية الطبيعية والمهيمنة على فلسفات الأنوار انتهاء بالماركسية ndash; ليست نموذجاً منطقياً أو عقلياً للتطبيق والتجريب، بل هي أقرب للعمل الفني في إبداعيته وخروجه على مألوف التعبير والتواضع وفي جموحه وتوحشه. ومن ثم صعوبة تفسير الثورة لأنها حدث فردي متفرد لا يدرك بمنطق الكليات والثوابت. الثورة أقرب من هذا المنظور لمفهوم المعجزة الذي حاولت الفلسفة منذ سبينوزا إخراجه من دلالته الدينية إلى المجال السياسي والمنظور الاجتماعي، مع الميل دوماً لاستيعابه في حركة النمذجة العقلية البرهانية. وما لا يذكره quot;الشارنيquot; هنا هو ما قد نبه إليه الفيلسوفان الألمانيان quot;ليو شتراوسquot; وquot;كارل شميتquot; من أن الفكر السياسي الحديث بنى مفاهيمه المحورية على أساس تمويه المعجزة وإخفائها وتغطيتها بالمصطلحات النظرية العقلانية. وفي مقدمة هذه المصطلحات فكرة quot;السيادةquot; التي تقنع المرور الخارق من حالة الطبيعة إلى حالة الاجتماع المنظم بالقانون والسلطة.

والواقع أن الفلاسفة أخذوا في الغالب موقفاً مزدوجاً من الثورة: رفضوها من منطلق كونها تشكل تحدياً معرفياً وفكرياً للقوالب النظرية، وتحمسوا لها من حيث كونها أفقاً للاستشراف والتأمل في ما وراء الوقائع التي تكرسها الثقافات السائدة وتعبر عنها.

حدثت الثورة الأولى في العصور الحديثة (الثورة الفرنسية) دون أن يتوقعها quot;فولتيرquot; وquot;روسوquot; اللذان هتف ثوار quot;الباستيلquot; باسميهما .انتقد quot;فولتيرquot; الاستبداد الديني والسياسي، لكنه لم يرد أو يتوقع القطيعة الحاسمة مع الحالة السياسية القائمة. أما quot;روسوquot;، فظل في حيرة من مسألة التغيير الاجتماعي: أراد حكم الشعب ورفض مبدأ التمثيل، وأدرك استحالة نهج الديمقراطية المباشرة.

لم تنجح أي من الثورات المبرمجة التي تمحورت حول المشروع الفلسفي الأيديولوجي الماركسي، على الرغم من أن الأنظمة المنتمية للمعسكر الشيوعي المندثر استخدمت شعار quot;الثورة الاشتراكيةquot; للتعبير عن ديكتاتورية الحزب الواحد، كما هو الشأن في الثورات القومية التي عرفها العالم العربي.

وماذا كان الفكر العقلاني عاجز عن فهم الثورة في سيرورتها وتفردها (ولذا اعتبر هيجل أن الفلسفة تأتي دوماً في الهزيع الأخير من الليل بعد اكتمال الحدث)، فإنه يجد مصاعب جمة في بلورة مسالك الخروج من الثورة، الذي هو في الواقع مفارقة عصية بما هو خروج إرادي من حالة الحرية المطلقة المجردة إلى حالة الانتظام المؤسسي الذي يقتضي إضفاء الشرعية على علاقات السلطة والتراتب والتفاوت.

لقد ظل إشكال السلطة المؤسسة مشغلاً ملحاً للفلاسفة في مقابل اكتفاء الفكر القانوني والسياسي بالسلطة المكونة (بفتح وتشديد الواو)، التي تعني المؤسسات والنظم المسيرة للشأن الجماعي المشترك. في هذا السياق تشير إلى تقليدين بارزين : التقليد التعاقدي الذي يمنح العلاقة الترابطية الحرة فاعلية تكوينية مع ما يقتضيه هذا التصور من استناد لأسطورة الفعل التعاقدي الأصلي (المرور من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية)، والتقليد الصراعي الذي ينظر للحالة السياسية الاجتماعية بصفتها معترك صدام دائم وتناقض لا ينفك يؤدي إلى تسويات مرحلية تضفي الشرعية على هيمنة الطرف المتغلب، مع ما يفضي إليه هذا التصور من عدمية ضمنية (إما بتحويل أطر الشرعية إلى أيديولوجيا زائفة أو النظر إلى السلطة في بعدها القهري وحده).

ولقد قرأنا مؤخراً لبعض فلاسفة اليسار الراديكالي من نوع الفرنسي quot;الان باديوquot; والسلوفاكي quot;سلافوج زيزكquot; احتفاء بالثورات العربية الأخيرة، بالنظر إليها كحالات قطيعة جذرية مع منطق الدولة الحديثة في quot;ديمقراطيتها الحسابية المزيفةquot; واقتصادها الاستهلاكي. هذه التصورات فضلاً عن زيفها، تكرس وهم الثورة الدائمة، دون الوعي بأن حدث الثورة لا يكون إلا خارقاً واستثنائياً، وكل محاولة لتثبيته تقود إلى تقويض الإمكانات العملية للمناظرة السياسية كفعل تواصلي حر.

لقد وقع الفيلسوف الفرنسي quot;ميشال فوكوquot; في هذا الوهم عند اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، التي رأى فيها تمرداً على العقل السياسي الحديث، في الوقت الذي راهن quot;سارترquot; من قبل على الستالينية، باحثاً كلاهما عن أفق جديد للفعل التاريخي بعد أن خبت كل وعود التحول الجذري في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية الغربية.

برز الوهم ذاته خلال انتفاضات الطلاب عام 1968 التي أطلق عليها فلاسفة الحي اللاتيني الباريسي تسمية quot;الثورةquot;، فتحمسوا لشعاراتها الطوباوية الساعية لهدم السلطة وتحرير الرغبة وصنع المستحيل، فلم تكن أكثر من انتفاضة استعراضية سرعان ما انمحت أثارها.

نشهد اليوم حالة مماثلة في البرتغال وإسبانيا واليونان، حيث الشباب المتذمر من انعكاسات الأزمة المالية الحادة التي عصفت بالبلدان الأوروبية يرفع شعارات القصبة التونسية وميدان التحرير المصري، على اختلاف الظروف والخلفيات.

لم تقم quot;معجزةquot; الثورة إلا في تونس ومصر، أما الانتفاضات الشعبية التي عرفتها البلدان الأخرى فهي من قبيل الفعل السياسي المنظم، حتى لو كان في بعض جوانبه تلقائيا ومن دون قيادة جامعة. فالحدث هو كما يقول دريدا quot;المستحيل الذي لا يمكن انتظارهquot;.