رسالة إلى الرئيس بشّار الأسد

راجح الخوري
النهار اللبنانية
يحتاج الوضع المتأزم في سوريا، بعد مرور خمسة أشهر على بداية الحركة الشعبية المطالبة بالاصلاح والحرية، الى quot;انقلاب تصحيحيquot;. قد لا تكون كلمة quot;التصحيحquot; جذابة أو مقبولة لأسباب تتصل بما آلت إليه quot;الحركة التصحيحيةquot; الاولى.
ربما لهذا يحتاج الامر سيدي الرئيس الى انقلاب منك quot;عليكquot;. هذا الامر قد لا يكون ضمناً خافياً عليك. ليس خافياً عليك أيضاً أن الحل الأمني باتت أضراره أكثر من فوائده، وخصوصاً بعدما اجتازت الامور كل هذه المسافة من الآلام والجروح والكراهيات وحتى الأحقاد التي يعاد نبشها من جديد.
ليس خافياً عليك أيضاً، أنه في ظل هذا الواقع المفعم بالعنف، باتت سوريا كمن يستقل سلّماً كهربائياً يقود دائماً الى فوق، بمعنى أن الدم يستسقي الدم والعنف يجلب العنف، والآلام تؤسس لمزيد من الآلام. تعرف سيدي الرئيس أن الدبابات المتنقلة في المدن السورية لا تستطيع في النهاية أن تفتح للنظام صفحة جديدة خالية من الكراهية والضغائن، وتعرف أن الاصلاح الذي أردت أن تبدأ عهدك به وواجه سدود quot;الحرس القديمquot; لا يزال يرسم لك صورة شعبية عند السوريين، وتعرف أيضاً أن كل ما قلته عن الاصلاح في خطبك الأخيرة لا يمكن أن يجد طريقه الى التنفيذ المنقذ والمرجو قبل أن يتوقف البارود وتبرد الجروح وتهدأ الأحزان، ولكي يحصل هذا، يجب أن تتوقف المجنزرات عن التقدم ويخرج المعتقلون من السجون.
تعرف أيضاً أن المستوى الأمني في سوريا لم يكن يعرف ما في نفوس الناس وإن عرف جيداً ما في أحيائهم وبيوتهم، وأن ما حصل ويحصل حركة شعبية تطالب بإصلاح مشروع أقررت به أنت، وأن المنادين من حولك بالحل الأمني خسروا الرهان ولم يعد سباقهم الآن مع الوقت بل مع المأساة المتنامية، وهذا ما لا تريده لا وطنياً ولا أخلاقياً.
وحتى لو أعاد الأمنيون الناس الى بيوتهم وصمتهم وصبرهم، فإن ذلك لن يعني أنك كرئيس شاب وعصري، كما ينظر إليك، ستحكم وطناً بل ستحكم سجناً كبيراً لن يلبث أن يثور وأنت لا تريد أن تكون سجّاناً.
كل ما قيل عن الإصلاح والمؤتمرات الإصلاحية والوعود المتكررة بالإصلاح لا يوقف العاصفة المتصاعدة. وليس هناك من يشك لحظة في أن تصاعد الأمور قد يدفع سوريا نحو محنة كبيرة تستمر سنوات وقد تجرّ البلاد والمنطقة الى كوارث مخيفة.
سيدي الرئيس، وحدك أنت تملك المخرج والحل، لا الحزب ولا العائلة. أنت شخصياً، بما لك من رصيد شعبي، يدفعك الى الوقوف صارخاً في أهل النظام وفي الشعب أن:
كفى... الأمر لي. فليذهب الأمنيون الى البيت وربما الى المحاسبة، وليأت المطالبون بالإصلاح لنرسم سوياً طريق الحرية والمستقبل.
الجمهورية laquo;العربيةraquo; السورية
حازم صاغيّة
الحياة
كان مفاجئاً، وينبغي أن يكون محرجاً جدّاً للعربي المتباهي بعروبته، اكتشاف أن مئات آلاف الأكراد السوريين لم يحملوا لعقود جنسية سورية.
هذا الحرمان لم يبدأ مع البعث، بل قبل قيام سلطته بقرابة عام. إلاّ أنه حصل بموجب إجماع على العروبة، يلتقي عنده البعثي ونقيضه، والإسلامي ونقيضه. العروبة إذاً هي التي قضت بذلك.
بيد أن النظام الذي أنشأ الحرمان، كان هو نفسه نتاج هدم الوحدة المصريةndash;السورية، وفصم عرى laquo;الجمهورية العربية المتحدةraquo;، بحيث سُمّي laquo;نظام الانفصالraquo;. وما يعنيه هذا، بحسب laquo;تقاليدناraquo;، أن خلافاتنا السياسية غالباً ما تواكبها إجماعات ثقافية وفكرية بين المختلفين. لا بل يتحوّل ذاك الإجماع مادةً للمزاودة فيه كلما احتدم الخلاف السياسي. هكذا لا نعود نعرف مَن الأكثر إسلاماً، صدّام أو الخميني، ومَن الأكثر عروبة، صدّام أم حافظ، ومن الأشد إصراراً على تحرير فلسطين، حافظ أم ياسر عرفات؟
من هذا القبيل، سمّى الانفصاليون سورية laquo;الجمهورية العربية السوريةraquo;، وكانت قبلاً laquo;جمهورية سوريةraquo; فحسب، مزايدين على عدوّهم الجديد laquo;بطل القومية العربيةraquo;، جمال عبد الناصر.
والحال، وبعيداً عن المزاودات وكذبها، تبقى laquo;عروبةraquo; سورية فضاء ثقافياً عريضاً وبديهياً، بالمعنى الذي تشكّل فيه laquo;أوروبيّةraquo; فرنسا فضاء ثقافياً عريضاً وبديهياً لها. فإذا قيل laquo;جمهورية فرنسا الأوروبيةraquo; صار الشكّ واجباً بفرنسيتها وبأوروبيتها في آن معاً.
بلغة أخرى، يبدو إقحام النسبة في اسم الدولة-الأمة دليلاً على تخبّط في المعنى أكثر منه دليلاً على أي شيء آخر. وتخبّط كهذا وسم الولادة السورية الحديثة بوصفها انتقاصاً من كلٍّ laquo;عربيraquo; أكبر، انتقاصاً لا يُعوّض، رمزياً ولفظياً، إلاّ بالاستغراق المَرَضيّ في laquo;العروبةraquo;. والأمر أحياناً بلغ حد الرغبة في إفناء الذات أو الخجل بها وباسمها. فلم يكن مصادفاً أن سورية، وعلى عكس بلدان الكون، ألقت نفسها في أحضان مصر في 1958، وغدت laquo;إقليماً شمالياًraquo;، قبل أن تغدو جمهورية laquo;عربيةraquo; سورية، ثم laquo;قطراًraquo; على يد البعث.
والتخبّط لم يكن إلاّ أحد السلالم التي تسلقها البعثيون لبلوغ الحكم، ومن ثم لإدامته. ذاك أن الايديولوجيا الوطنية السورية، التي ربما كان خالد العظم أبرز رموزها، مكثت بكماء عاجزة أمام الإجماع اللفظي على laquo;عروبةraquo; لا تعني شيئاً. وفي صورة أعمّ، كان ما تُنجزه الوطنية السورية باليمنى، اقتصاداً وتعليماً ومواصلات، لا تلبث أن تلغيه باليسرى، إذ تقدم هذا الذي تبنيه كمجرد laquo;خطوةraquo; على طريق الوحدة العربية. حتى الانفصاليون الذين استقلوا بسورية في 1961 أشاعوا أنهم يحاولون إصلاح الوحدة، وهو ما عاد البعث وردّده بعدهم، ولأجل ذلك انعقدت المحادثات الثلاثية الشهيرة في القاهرة.
هكذا عاش الوطن في مكان والوطنية في مكان آخر. وتتمةً للخجل بالسورية، ما لبث أن تطوّر خجل بالوطنية، فدرجت عبارة سُكّت في دمشق البعثية عن laquo;الوطني والقوميraquo;، قبل أن تزداد تناسلاً فتغدو laquo;الوطني والقومي والإسلاميraquo;... فلم تكن تلك الصيغ والصياغات سوى إعلانات مداورة عن أن إملاءات الدولةndash;الأمة (حيث الوطن هو الأمة والوطنية هي القومية) لا تسري على سورية.
وقد آن الأوان لوقف هذا التخبّط، تمهيداً لمحو آثاره التي لم يُفد منها عملياً إلاّ البعث واستبداده، ومن ثم للعيش في عالم لا ينقسم إلاّ دولاً وسيادات وطنية. فالذي لا يستطيع توحيد سورية وتحويلها وطناً ناجحاً سيكون كلامه في العروبة مادة للتندر. أما إذا كان حاكماً، فلن تكون عروبته سوى ذريعة هيمنة على الجوار، لا سيما لبنان وraquo;سورية الجنوبيةraquo; فلسطين.
والانتفاضة اليوم هي، بين أمور أخرى، فرصة للتخلص من هذا الهراء عن سايكس بيكو والمشاريع والمخططات وما إليها. وليس مصادفاً أن سائر الانتفاضات العربية راجعت، وتراجع، العقود الأخيرة، كلٌّ بطريقتها. فلمرة واحدة، آن لتاريخنا أن يبدأ إيجابياً مع الصيرورة الوطنية، لا سلبياً مع امتناع الصيرورة وإعاقتها. ولمرة واحدة، آن لنا أن نبرهن أن الديموقراطية طمأنة للجوار وضمانة للأقلية بقدر ما هي حكم الأكثرية.
وهذا جميعاً ما يوجب شكر الممثّلين الأكراد، في مؤتمر اسطنبول، لأنهم نبّهونا إلى المشكلة هذه. وسيكون الشكر أكبر في ما لو عرف الأكراد كيف يطرحون المسألة بلباقة، فلا يفضي الحزم المطلوب فيها إلى إضعاف الجهد المعارض في عمومه. أما إذا تمكنوا من ضبط موقفهم حيال تركيا بالمصلحة الإجمالية السوريّة وحدها، فعندها يؤكدون أنهم طليعة مستحقّي laquo;الجمهوريّة السوريةraquo; واستعادتها، بل تخليصها من laquo;الجمهورية العربية السوريةraquo;.