سليمان جودة

كتبت في هذا المكان، الأسبوع الماضي، أقول ما معناه، إن القاضي الذي سوف يكون عليه محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك، سوف يجد نفسه في النهاية، أمام مأزق حقيقي، لا لشيء، إلا لأنه مطلوب منه أن يحكم على المتهم الماثل أمامه، في هذه القضية، وفي غيرها طبعا، بما يتوافر له من أدلة، وقرائن، وحجج، وبراهين، وليس بما قد يسمعه في الشارع، أو يراه في وسائل الإعلام!

ورغم أن هذه بديهية، فإننا إزاء وضع محزن نراه، ونتابعه جميعا، في القضية موضوع الدعوى، مضطرون لأن نعيد تعريف البديهيات، من جديد، ومضطرون لأن نؤكد ما هو مؤكد أصلا!

وكان سؤالي الأساسي هو: ماذا لو.. أقول لو.. اكتشف القاضي بعد انتهاء نظر القضية، أن المتهم حسني مبارك، بريء مما هو منسوب إليه، وأنه، بإنكاره لكل التهم الموجهة له، كما حدث في الجلسة الأولى صباح الأربعاء الماضي، ثم بما سوف يدفع به محاميه فريد الديب في الجلسات اللاحقة، لم يرتكب شيئا من التهم المسجلة في صحيفة الدعوى.. ماذا سوف يفعل القاضي وقتها؟!

سوف يقول قائل: وهل هذا سؤال يا أخي؟! سوف يحكم القاضي، عندئذ، ببراءة المتهم، طالما أن الأدلة المتوافرة أمامه، لا تدينه.

وسوف أرد لأقول: إن الحكاية ليست بهذه السهولة أبدا، وإنها في غاية الصعوبة، لأن الذين طالبوا بسرعة محاكمة الرئيس السابق، منذ أن تخلى عن منصبه في 11 فبراير (شباط) الماضي، كانوا يفعلون ذلك، وفي أذهانهم يقين.. نعم يقين.. بأنه مدان، مدان.. مدان.. بالثلاثة.. ما في ذلك شك..

وليس عندي مانع بطبيعة الحال، في أن يدان الرجل، وأن يذهب حتى إلى حبل المشنقة، ولكن بشرط وحيد، هو أن يكون ذلك بحكم موضوعي وعادل من القاضي، دون أن يجد نفسه واقعا تحت ضغط الشارع طوال الوقت، ليس فقط أثناء المحاكمة، ولكن قبلها بكثير!

وأظن، وبعض الظن ليس إثما، أن الدنيا كلها حين تابعت صباح الأربعاء، أولى الجلسات، قد لاحظت أن كثيرين كانوا قد تجمعوا أمام قاعة المحاكمة، وكانوا قسمين: واحد ينادي ببراءة الرئيس السابق، وآخر يطلب إدانته، وحين اشتبكوا فإن 57 مصابا قد سقطوا من بينهم!

ومع ذلك، فليست هذه هي المشكلة في تقديري، لأن المشكلة الحقيقية، أن المأزق الذي كنت أتحدث عنه، قبل أسبوع، بالنسبة للقاضي، قد انتقل، بمجرد بدء الجلسة الأولى، منه هو، كقاض، إلى المصريين جميعا، وصاروا هم، بحق، أمام مأزق كبير!

ذلك أن أحدا منهم لم يكن يصدق أن حسني مبارك، بكل هيلمانه القديم، سوف يأتي ليقف في قفص الاتهام، فهناك ألف طريقة، وطريقة، لإبعاده عن القفص، كما أن محاميه، لن يعجز عن إيجاد وسيلة من نوع ما، في هذا الاتجاه!

كان الشك في إمكانية حضور مبارك، ليقف في القفص، هو سيد الموقف، وكان الجميع، حتى آخر لحظة، متأكدين تماما، لسبب أو لآخر، من أنه لن يأتي.. بل إن الطائرة الهليكوبتر، التي أقلته من شرم الشيخ، حيث كان يقيم منذ تخليه عن منصبه، إلى شرق القاهرة، حيث مكان المحاكمة في أكاديمية الشرطة، كانت موضع شك عظيم، لكل الذين تطلعوا إليها، وهي تحلق، قبل هبوطها، وكان الجميع يعتقد أنها لا تحمل مبارك في داخلها، وأن الأمر كله لا يعدو أن يكون تمثيلية.. بل إن الذين راحوا يدققون النظر في سيارة الإسعاف التي حملته من الطائرة، إلى القاعة، كانوا يعتقدون أن هذه السيارة المغلقة، والتي لا يرى أحد ما بداخلها، مجرد خدعة، وأن مبارك ليس موجودا في بطنها، وأنها، وأنها، إلى أن انفتحت، ثم خرج منها سرير طبي، ليظهر بعد ذلك في القفص، بينما الرئيس السابق ممدد عليه!

وهنا.. وهنا فقط.. بدا أن مبارك الممدد على سريره الطبي، يتمتع بوعي كامل، ويقظة تامة، في متابعة ما يجري حوله.. قد يكون جسده قد خذله، فلم يعد قادرا على أن يقف - مثلا - أو حتى يجلس في مكانه، فضلا عن أن يتحرك.. قد يكون هذا صحيحا، ولكن الأصح منه، أنه احتفظ بدرجة من الصلابة والتماسك، لا بد أن يحسده عليها، كل الذين راقبوا تفاصيل المشهد من بعيد، فقد كان وجهه نضرا على غير المتوقع، وكانت عيناه تتابعان بقلق خفيف، كل ما يدور ويجري داخل القاعة، وكان يسأل ابنه جمال الواقف إلى جواره، عن أي شيء يبدو له، ولا يفهمه، وكان جمال يهمس في أذنه بأشياء لم نسمعها طبعا، ولا نعرف ما هي، وكان يرفع إحدى يديه ليقول أنا هنا، وإنه موجود، عندما نادى القاضي اسمه، وكان يصيح بقوة، لينكر كل التهم التي سردها القاضي في حقه، وكان.. وكان.. مما لا بد أنك لاحظته وتابعته، معي، ومع غيري!

وبطبيعة الحال، فإن المسألة لا تخلو من طرفة هنا، وأخرى هناك، كأن يقال - مثلا - إن محاميه هو الذي رتب مجيئه على محفة بهذه الطريقة، إلى القاعة، ليستجلب تعاطف الناس معه، أو أن يقال، إن الشخص الذي كان ماثلا أمامنا، وراقدا على سريره الطبي، ليس هو مبارك، وإنما هو شخص آخر شبيه، وإنه laquo;دوبليرraquo; بلغة السينما، طلبوا منه أن يمثل الدور بإحكام!

غير أن هذا كله، في اعتقادي، ليس مهما، وإنما المهم فعلا، أن ملايين المصريين الذين راهنوا، منذ يوم التخلي عن المنصب، إلى لحظة ظهور مبارك فوق سريره داخل القفص، على أنه لن يحضر، قد laquo;أسقط في أيديهمraquo; فجأة، ساعة أن شاهدوه، واكتشفوا بينهم وبين أنفسهم، ساعتها، ثم بعدها، أن مجيء مبارك، إلى القفص، كما كانوا قد طالبوا بإلحاح، منذ يوم التنحي، ليس هو المشكلة، ولن يكون.. فها هو المتهم ماثل أمام الجميع، في قفص اتهامه، وها هو أقوى مما كان يظن كل الخصوم، وها هو مستعد للمواجهة حتى وهو على سريره، كما بدا لنا جميعا، وها هو يخرج ويدخل بالسرير، من القفص وإليه، أكثر من مرة أثناء الجلسة الممتدة!.. فماذا بعد ذلك إذن؟! ماذا علينا كمصريين أن نفعل، الآن، إذا كنا طوال ستة أشهر، لم يكن لنا شيء يشغلنا، إلا أن يأتي مبارك إلى القفص؟! لقد جاء وانتهى الأمر، وأصبح علينا، أن نصارح أنفسنا، بأن مأزق القاضي قد انتقل إلينا، لأنه قد تبين لنا، في لحظة وجود المتهم في قفصه، أنه جزء من الماضي، الذي استغرقنا طويلا طويلا، وأن المستقبل لم يستغرقنا لا طويلا، ولا قصيرا، وأنه يدق بابنا بعنف، وأننا لم نتهيأ بعد لاستقباله، وأنه قد لا ينتظرنا، فيتجاوزنا ويمضي!

أكاد أتخيل حسني مبارك، وهو ممدد في سريره الطبي، يقول: ها أنا قد جئت لكم كما أردتم، فماذا بعد؟! ماذا أنتم فاعلون الآن؟! فأنا أمامكم.. هكذا أتخيله وهو يحدث نفسه.. بينما المستقبل خلفكم، في حين أن العكس تماما كان هو المطلوب!