يوسف نور عوض


هل يعقل أن ما يجري في العالم العربي في الوقت الحاضر يحدث في أي بلد من بلاد العالم تسود فيه روح القانون والعدالة؟ هل من مهمة أي رئيس أن يجرد جيوشه من أجل قتل شعبه على هذا النحو الذي نراه في سورية وليبيا؟ أمثال هؤلاء الرؤساء يزعمون أنهم يحرصون على تحقيق الأمن في بلادهم، لكن لماذا لا يكون الاستماع لما تقوله هذه الشعوب جزءا من عملية تحقيق الأمن، خاصة أن معظم هؤلاء الرؤساء لم يصلوا إلى الحكم بطرق شرعية بل بواسطة انقلابات عسكرية انتهى عهدها والمبررات التي تسببت في وجودها، وفي ضوء ذلك نتوقف مع العقيد معمر القذافي الذي يعتبر حالة خاصة وشاذة بكونه أقدم الحكام العرب وأكثرهم جدلا ومراوغة من أجل التشبث بالحكم.
والمعروف أن العقيد معمر القذافي جاء في نهاية فترة كانت كثير من الشعوب العربية فيها مخدوعة بالنظم العسكرية التي انتشرت خلال فترة الحرب الباردة، ذلك أن الصراع خلال تلك الفترة كان بين معسكرين هما المعسكر الغربي وتمثله دول الغرب مجتمعة والمعسكر الشرقي ويمثله الاتحاد السوفييتي، والصين على استحياء، ونظرا لأن معظم دول العالم الغربي ارتبطت بالنظام الاستعماري فقد كان من الطبيعي أن تتحول دول العالم الثالث التي خضعت للاستعمار ومنها بعض دول العالم العربية إلى المعسكر الشرقي، خاصة أنه كان يتبنى أيديولوجية يسارية تدعو إلى التحرر والعدالة في توزيع الثروات وما إلى ذلك من شعارات لم تثبت حتى الآن صحتها.
وفي هذه المرحلة كانت الثورة المصرية هي مركز الاهتمام وقد اكتسب الرئيس جمال عبد الناصر شعبية كبيرة بسبب مناهضته للاستعمار ودعوته لعدم الانحياز وقبل ذلك دعوته لتحرير فلسطين التي كانت في مركز الاهتمام من العالم العربي، ولكن جاءت نكسة حزيران لتوجه ضربة كبيرة للرئيس جمال عبد الناصر الذي لم يكن في الوقت ذاته يحتفظ بعلاقات طيبة مع بعض الأنظمة العربية، ووسط مشاعر الحزن التي غطت العالم العربي انطلق انقلابان عسكريان أحدهما في ليبيا بقيادة العقيد معمر القذافي والآخر في السودان بقيادة الرئيس جعفر نميري، وقد رفع الانقلابان كثيرا من معنويات الرئيس جمال عبد الناصر الذي وصف العقيد القذافي والرئيس نميري بأنهما يجددان شبابه، ولا شك أن هذا التعليق من الرئيس عبد الناصر ساعد كثيرا في توطيد أركان الانقلابين لأنه على الرغم من الهزيمة في حزيران فقد كان عبد الناصر يتمتع باحترام العالم العربي لأسباب كثيرة لا نريد أن ندخل في تفاصيلها الآن.
ولا شك أن عدم وجود التجربة عند العقيد القذافي الذي أطاح بالأسرة السنوسية وهو في السابعة والعشرين من عمره، كان له دور كبير في تقلباته الهوائية، ذلك أنه قدم نفسه في أول الأمر على أنه مناضل قومي ويدعو في الأساس إلى وحدة العالم العربي في إطار مفهوم القومية العربية وتحرير فلسطين، ولكنه سرعان ما زهد في هذا التوجه وبدأ يقدم نفسه على أنه قائد أفريقي بل ذهب إلى وصف نفسه بأنه ملك ملوك أفريقيا ولا شك أنه دفع أموالا طائلة من أجل أن يجد لنفسه موضع قدم بين القادة الأفارقة، وأما بالنسبة للقضية الفلسطينية فقد تنكر لإستراتيجيتها العامة ودعا إلى نوع من الوحدة بين إسرائيل والفلسطينيين في إطار دولة أطلق عليها اسم إسراطين، وهو تفكير يتسم بغير قليل من السذاجة لأن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يتم بهذا الأسلوب المرفوض أصلا وإذا عدنا إلى الداخل الليبي وجدنا أن العقيد معمر القذافي حاول أن يؤسس لنفسه نظام حكم لا يحفز الآخرين بأي طموحات لإزالته، وقد وضع أساس هذا الحكم في ما سماه الكتاب الأخضر وهو كتاب وضع أصوله بعض قادة العمل السياسي في السودان ومنهم بابكر كرار الذي يقال إنه وزميله إبراهيم ساعدا في وضع هذا الكتاب وذلك رأي أنكره معهد الكتاب الأخضر في ليبيا عندما نشرته أول مرة في إحدى الصحف العربية، وبصرف النظر عن ذلك فقد تركزت فكرة الكتاب الأخضر على ما سماها العقيد القذافي النظرية العالمية الثالثة، وهي نظرية تقوم على فكرة اللجان الشعبية التي تؤول إليها السلطة مع عدم وجود رئيس أو وزراء في الدولة، وتلك فكرة خادعة لأن الحقيقة التي ظلت قائمة خلال أربعين سنة من حكم القذافي هي أنه كان يسيطر على السلطة بشكل كامل هو وأبناؤه على الرغم من أنه ينكر ذلك، والدليل أنه يقاتل في الوقت الحاضر من أجل السلطة ولو كان لا يملكها فما الداعي لأن يقاتل بينما الذين يطالبون بالتغيير هم أفراد الشعب الذين ينتمون إلى اللجان الشعبية؟
ولا تقتصر مواقف القذافي المتأرجحة على ذلك، فقد ساند خلال الحرب الباردة الإرهاب وعمليات التطرف وساءت بذلك علاقاته مع كثير من دول العالم الغربي وهو ما اضطر الرئيس ريغان لأن يقوم بهجوم على مقره وقد نجا من الموت بأعجوبة بينما توفيت ابنته بالتبني ولكنه تعلم الدرس إذ هو لم يعد يقيم في المباني بل يقيم في الخيام المتحركة وذلك من أجل الاحتياطات الأمنية، ولم تتوقف أعماله عند ذلك بل وجهت له اتهامات بأنه المسؤول عن إسقاط طائرة بنام فوق أسكتلندا، وهي القضية التي أفسدت علاقاته مع بريطانيا وقد توصل إلى حل لهذه المشكلة بدفعه تعويضا يقدر بمليارين وسبعمئة مليون دولار وتسليمه عبد الباسط المقرحي والأمين فحيمة لمحاكمتهما بهذا العمل.
ولم تتوقف تنازلات القذافي عند ذلك بل تراجع أيضا عن الاستمرار في برنامجه النووي وسلم سائر الوثائق المتعلقة بهذا البرنامج إلى الولايات المتحدة، وساعده ذلك في الحصول على دعوة لزيارة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، ومخاطبة الأمم المتحدة حيث هاجم مجلس الأمن ووصفه بأنه مجلس الرعب.
وأما على المستوى العربي فقد ساءت علاقاته مع المملكة العربية السعودية بعد تلفظه بعبارات غير لائقة أمام خادم الحرمين الشريفين، كما ساءت علاقاته مع السودان بدعمه لحركات التمرد في دارفور، وساءت علاقاته مع الرئيس السادات وقد اتهم باغتيال الإمام موسى الصدر المرجع الشيعي اللبناني وقد أكد عبد المنعم الهوني شريك القذافي في انقلاب الفاتح مقتل الإمام ودفنه في سبها جنوب ليبيا.
وعلى الرغم من المبادىء التي ظل يباهي بها فقد نشر موقع ويكيليكس أن ثروة القذافي المهربة تبلغ مئة وواحدا وثلاثين مليار دولار تضاف إلى ذلك ثروات أبنائه الباهظة.
وكان القذافي أول من قبل مبدأ توريث الحكم بعد أن نشأت الفكرة في إطار نظام الرئيس حسني مبارك، وبدأ بالفعل يهيىء ابنه سيف الإسلام لهذه المهمة التي لا يبدو الآن أن هناك أي أمل في تحقيقها بعد أن أصبح سيف الإسلام مطلوبا لمحكمة الجنايات الدولية بحسب تصريحات لويس مورينو أوكامبو المدعي العام للمحكمة.
وبكل تأكيد فلا يتعب المرء كثيرا من أجل رصد الاعوجاج في سلوك القذافي ونظامه ولكن السؤال الذي يظل قائما هو كيف تصبر الشعوب العربية على مثل هذا الضيم في عالم يتغير، بل كيف تتطلع هذه الشعوب إلى بلد مثل الولايات المتحدة من أجل اتخاذ مواقف تعيد الأمور إلى نصابها في وقت تعلم فيه معظم الشعوب العربية أن السياسات الأمريكية في المنطقة لم تكن أبدا متوافقة مع المصالح العربية، وأن كل ما ظل يحركها هو المصالح الصهيونية، والدليل على ذلك هو الموقف المتأرجح من المذابح التي تجري في سورية التي وضح تماما أن الولايات المتحدة تعتبرها صمام أمان للاستقرار في المنطقة خاصة في ما يتعلق بالمواجهة مع إسرائيل، التي صرح زعماؤها أنهم يخشون من تغير الأوضاع في سورية، ويكشف هذه الموقف أيضا المواقف الزائفة التي تتخذها الولايات المتحدة من بعض دول المنطقة المتحالفة سياسيا مع سورية.