عبدالوهاب بدرخان

كان اندلاع الثورة الليبية حلماً في حد ذاته، لكنه تحقق، وها هو حلم آخر في طريقه إلى إسقاط نظام معمر القذافي، ليرتسم الحلم الأكبر والأهم بإقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة كل الليبيين بلا استثناء ولا إقصاء.
كان الليبيون، عندما ثاروا تجاوزوا أنفسهم وفاجأوها، كسروا الحواجز والعقبات التي بناها النظام لخنق توقهم إلى الحرية، وها هي الشهور الستة مضت كأنها دهر تعمد خلاله شباب ليبيا بالدم والنار والعذاب في سبيلهم إلى التقاط هذه اللحظة التاريخية في حياة وطن.
تشهد ليبيا، ويشهد العالم معها نهاية النظام المستبد الأرعن، وكأنها نهاية مكررة لاستعمار تنكر بلبوس الوطنية تارة والقومية تارة أخرى، لكنه في كل الأحوال كان استعماراً داخلياً كما هي مع أبشع ممارسات الاستعمار الأجنبي بل ذهب أبعد منها.
في اللحظات الراهنة بات سقوط النظام هدفاً ثانوياً، الأهم دخول طرابلس دخول الأهل والإخوة إلى الدار، فالعاصمة عانت أكثر من سواها قبضة النظام الباغي وجلافة أزلامه ووعيد أجهزته وعسسه وانتهازييه.. الأهم أن يعي الثوار أن البلد أصبح في كنفهم وليس متاحاً لأي منهم أن يضيع هذه الفرصة.
المخاوف كبيرة، كبيرة جداً، لدى القوى الغربية التي ساعدت الثوار، فهم أدهشوها بالقدرات التي أبدوها وأنجزوا، لكنهم أذهلوها أيضا بما انطووا عليه من انقسامات تعتقد أن ما ظهر منها إلى العلن كافٍ لتوقع الأسوأ، قدم الليبيون تضحيات هائلة، لم تعرف كلها بعد، لكنهم مدعوون إلى التضحيات الأكبر إذا كانوا يريدون أخيراً وطناً يتسع لهم جميعاً.
لا يزال هناك توجس لدى المخططين الذين ينظرون إلى الخرائط على أنها رقعة شطرنج، يقولون إن اللعبة الحقيقية تبدأ عندما تبقى حفنة قليلة من الأحجار، وعندما يصبح quot;الملكquot; المحور المباشر لمختلف الحركات، قد ينطبق ذلك على القذافي الذي اختفى وراء الأحداث طوال الفترة السابقة، لكنه قد يختار الآن أن يطيل معركة النهاية ريثما يبلور النهاية التي يختارها لنفسه.
الانطباع في طرابلس وخارجها أن القذافي لم يعد في المدينة منذ أسابيع، وأنه يبث خطبه الصوتية مسجلة أو عبر الهاتف والشائعات كثيرة، منها أنه تعرض لمحاولة قتل عن قرب لكنه نجا منها بعدما أصيب، ومنها أنه مريض جداً، أين يرجح أن يكون؟ يقال إنه في سبها، وأن معظم أفراد عائلته معه، ومن هناك يستطيع أن يغادر من دون أن يلفت الأنظار، لكن وجوده هناك ألا يلفت الأنظار الآن، هذه أيضا قد تكون إشاعة.
لم يعد مهماً أين هو، المهم ألا يكون طبعه الشرير تحول إلى انتحارية شمشونية تسعى إلى أن تهدم المعبد عليه، وعلى خصومه، فمن المنطقي جداً أن يفكر بمشهد ختامي، هو الذي خطط طوال حكمه لتوليه البلاد والعباد في الشكل الذي تخيله، وفي النهاية تبين أن فشله كان عظيماً، الأهم أن يكون حراكه الأخير فشلاً آخر أكبر.
أعداء الثورة عيروها باللجوء إلى الخارج، إلى الغرب، إلى أمريكا وحلف الأطلسي، لا داعي للعودة إلى الجدل العقيم إياه، الخيار الآخر لم يكن موجوداً في أي لحظة، القذافي قفز فوراً إلى تحقير مواطنيه، والنكتة الليبية تقول: بن علي قال للتونسيين فهمتكم، مبارك قال يا شعب مصر العظيم، والقذافي قال من أنتم؟. نعم سأل في إطلالته المتلفزة الأولى: من أنتم؟ بعدما كان نعتهم بأفظع الأوصاف، لعله عرف الآن من هم، وبالأخص ذلك الشاب الذي يظهر مراراً في الكليبات التليفزيونية قائلاً: جايينك في عقر دارك، قبل 17 فبراير لم يكن هذا الشاب يتصور أنه سيعيش ليرى نفسه مقاتلاً لاستعادة وطنه وحريته.
شاء القدر الجغرافي والتاريخي لليبيا أن يكون مصيرها الوطني متداخلاً دائماً بلعبة المصالح الغربية، خصوصاً للدول القريبة منها والتي خاضت حروباً في ما بينها على أرضها، لكن الليبيين توصلوا دائماً إلى تغليب وحدة أرضهم ووطنهم، بل إلى انتزاعها من باطن منازعات القوى الخارجية، كانت الفترة القذافية فاصلة استثنائية لا لزوم لها في تاريخهم، ويخطئ من يظن أن القوى الخارجية كانت بعيدة عنها، بين الملكية الهادئة المستكينة والقذافية الصاخبة الدموية، حان الوقت لليبيا المدنية الديمقراطية التي تريد التصالح مع مستقبلها، أراد القذافي وأبناؤه أن يجعلوا من القبلية مطية للانقسامات التي تمكنهم من البقاء في الحكم، وأن يجعلوا من التدخل الخارجي فزاعة لتثبيط العزائم، لكن الطموح الوحيد الذي وحد حتى بين المختلفين هو ضرورة الخلوص من هذا النظام الذي بدد ثروة الشعب على كل شيء عدا التنمية.
في هذه اللحظة الدقيقة أصبح ضرورياً أن تظهر الثورة قائداً وقيادة قادرين على إشاعة الثقة، فالأيام المقبلة هي الأحلى والأغلى لكنها الأصعب، ولا يمكن للثورة أن تنتصر وتثبت انتصارها من دون أن يكون لها وجه وصوت، شكل للمجلس الوطني الانتقالي خطوة ضرورية، ذكية ومتقدمة، لعبور المرحلة الماضية، وسيكون له دور حيوي وحاسم في استيعاب مختلف الأطياف إلى أن يسلم المقاليد للحكم المنتخب، ولأجل ذلك سيكون عليه أن يتهيأ لاحتضان طرابلس وأبنائها، وأن يلزم تياراته كافة بالانضباط وتغليب المصلحة الوطنية على غرائز الانتقام، ويفترض أن تكون محنة اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس وما بعده قد علمت الجميع كيف أن أخطاء الثوار يمكن أن تعرض ثورتهم لمخاطر أشد من خطر النظام عليها.
المسألة الآن، في هذه اللحظة، ليست مسألة علمانيين ودينيين، قبليين أو مدنيين، وإنما مسألة ليبيا والليبيين ومن حق كل منهم أن يكون له طموحه ودوره، فلا مجال للتنافس إلا على بناء ليبيا الجديدة، هذا بلد لديه الإمكانات، وهذا شعب له طاقات، وحان الوقت لتسخيرها من أجل المستقبل، المسؤولية ملقاة على عاتق الجميع.
لكن ثمة مسؤولية مميزة ينفرد بها التيار الديني الذي يفترض أن يعي جيداً دلالات النقاش الدائر في مصر وتونس، وكيف أن المجتمع يعيش هاجس انقضاض الدينيين على السلطة بأي شكل وبأي تحالفات يمكن أن تتاح لهم، لا يمكن تصور مصلحة لأي تيار سياسي في أن يكون مصدر خوف للناس، ولا يمكن التعايش بين تيارات ترى أن تفويضها مرجعيته إرادة الشعب وتيارات تعتبر أن لديها تفويضاً إلهياً، هذه الأشكال حلة عن الدينيين أنفسهم، فهم يمكن أن يكونوا حراس القيم أما أن يكونوا في الإدارة فهذه قصة أخرى.