السيد ولد أباه
quot;الصحة شريبتكquot;، هو البرنامج الديني الرمضاني الذي يقدمه quot;الشيخ عبد الفتاح موروquot; على شاشة قناة quot;هنبعلquot; الحرة يومياً. لقي البرنامج إقبالاً عارماً، أثار جدلاً واسعاً في الساحة السياسية التي تتأهب للانتخابات الديمقراطية التعددية الأولى في تاريخ البلاد، باعتبار أن quot;موروquot;، هو أحد الزعيمين المؤسسين لحركة quot;النهضةquot; الإسلاميةquot;، وهو اليوم في مقدمة المترشحين المتوقعين لرئاسة الجمهورية. وقد اعتبر خصوم quot;موروquot; وغرماؤه أن برنامجه الديني هو نمط من الممارسة السياسية غير المشروعة من حيث هو استغلال منبر ديني لأغراض انتخابية.
quot;محمد سليم العواquot;، هو الوجه المماثل لمورو في الساحة المصرية. عرفنا الرجل من قبل فقيهاً منشغلاً بتجديد العلوم الشرعية، معتزلًا للعمل السياسي المباشر على الرغم من قربه من تيار quot;الإخوان المسلمينquot;. وللعوا دور معروف في إنشاء quot;الاتحاد العالمي للعلماء المسلمينquot;، الذي تولى أمانته العامة، في حين يوجد على رأسه quot;يوسف القرضاويquot;، الذي هو أحد الوجوه التاريخية لجماعة quot;الإخوانquot;. دخل العوا الساحة السياسية بقوة بعد سقوط نظام مبارك، وأعلن ترشحه للرئاسة، مستخدماً رصيده العلمي والفقهي، وإن عزته التجربة السياسية الفعلية. quot;صادق الغريانيquot; فقيه ليبي بارز، عُرف بدراساته العلمية الرصينة في المذهب المالكي وبمكانته الاجتماعية المرموقة واعتزاله للعمل السياسي. خرج الغرياني من عزلته وصمته بعد اندلاع الثورة على القذافي، فأفتى بوجوب الخروج على العقيد وحرمة أخذ المال من يده، وتحول إلى نصير أساسي للمجلس الانتقالي في بنغازي. في الحالات الثلاث، التي لها ما يوازيها في باقي الساحات العربية الثائرة، نحن أمام الظاهرة ذاتها: اقتحام رجل الدين المحترف الحلبة السياسية. صحيح أن العلماء والفقهاء أدوا في سابق العهود السياسية العربية أدواراً سياسية، خصوصاً في حقبة المقاومة ضد الاستعمار، ومن أشهر هؤلاء الإمام محمد عبده في مصر والشيخ الثعالبي في تونس والشيخان الابراهيمي وبن باديس في الجزائر وعلال الفاسي في المغرب...إلا أن هذه الأدوار تداخل فيها الديني العقدي والسياسي، وأخذت شكل زعامة أهلية إجماعية بدل العمل السياسي ذي الطابع الانحيازي (خرج أغلب الزعامات الدينية من الحقل السياسي بعد الاستقلال وانفرد علال الفاسي بالتحول إلى رئيس حزب سياسي تقليدي ذي ميول ليبرالية محافظة).
أما مؤسسو الحركات الإسلامية، فلم يكونوا في الغالب من علماء الدين المحترفين، كما هو شأن زعيم الجماعة الأم (حركة الإخوان المسلمين المصرية) الذي كان معلماً على غرار منظرها الإيديولوجي quot;سيد قطبquot;. اضطلع أستاذ الثانوية quot;راشد الغنوشيquot; بالمهمة نفسها في تونس وأدى مدرس التربية quot;عباسي مدنيquot; نفس الدور في الجزائر. فلم تستقطب الحركات الإسلامية المنظمة إلا القليل من كبار الفقهاء وعلماء الشرع الذين اعتمد أغلبهم التصور الإسلامي السُني الكلاسيكي في المسألة السياسية (طاعة ولي الأمر ولو كان متغلباً ما لم يظهر الكفر البواح خوفاً من الفتنة).
لم يخرج زعماء الحركات الإسلامية عن خريطة الزعامة السياسية العربية التقليدية التي تمحورت حول وجوه ثلاثة هي: المحامي والمدرس والضابط. وما نشهده اليوم هو تغير عميق يطال هذه الخريطة بخروج الضابط اثر انهيار الأنظمة العسكرية، التي كانت تحكم بواجهات سياسية مدنية، ودخول وجوه ثلاثة جديدة هي الفقيه ورجل الأعمال والإعلامي.
الفقيه على غرار quot;موروquot; وquot;العواquot; ليس الداعية، بل هو نموذج جديد من الطبقة السياسية، لا يتردد أحياناً في تبني الخطاب الحداثي والتحمس للدولة المدنية غير الدينية (على غرار العوا). ولا يمانع في البروز بوجه انفتاحي مقبل على الحياة (على غرار مورو الذي غنى على شاشة التلفزيون إحدى سمفونيات بتهوفن المشهورة). هل سيتحول الفقيه السياسي إلى نموذج أساقفة أميركا اللاتينية الذين دخلوا الحلبة السياسية رافعين شعار quot;لاهوت التحررquot;؟
رجل المال والأعمال هو الرديف والسند التقليدي للحاكم في الأنظمة التسلطية المنهارة، التي لا مكان فيها للشفافية ومساواة الفرص بين الفاعلين الاقتصاديين. بعد نجاح الثورات، بدأ رجال الأعمال يستثمرون في العمل السياسي، إما تعويضاً للحماية السابقة، أو استفادة من حالة الفراغ القائمة.صحيح أن طموح رجال المال السياسي بدا منذ مطلع التسعينيات من الساحة اللبنانية مع quot;رفيق الحريريquot;، الذي افتك موقع الزعامة السُنية من الأسر البيروتية والطرابلسية العريقة، إلا أن وضع لبنان الداخلي وتداخلاته مع الأجندة الإقليمية، لم تكن لتسمح بتصدير الظاهرة عربياً.وما نلمسه اليوم هو بروز مشاريع سياسية وحزبية مرتبطة بوضوح برجال أعمال في الديمقراطيات العربية الجديدة، (كالهادي الجيلاني في تونس ونجيب ساويرس في مصر وجمال المترب في اليمن، الذي انحاز إلى صف الثوار المطالبين بسقوط نظام علي عبدالله صالح). والسؤال المطروح هنا هو ما هو الأثر الذي سينجم عن دخول رأس المال الحر للحقل السياسي العربي؟ هل سيسير في اتجاه تدعيم المكاسب الديمقراطية الوليدة (كما كان دور البورجوازية الأوروبية في العصور الحديثة)، أم في الاتجاه المعاكس بإفساد الحياة السياسية كما هو مُشاهد حالياً في العديد من دول أوروبا الشرقية وأميركا للاتينية، التي تتحكم فيها اللوبيات والمافيات المالية ndash; السياسية؟
أما الإعلامي، فهو الوجه السياسي الجديد الذي أقحمته بقوة تقنيات الاتصال الراهنة في مشهد التغيير العربي الحالي. وإذا كان من الصحيح أن علاقة السياسة بالإعلام ليست بالجديدة، إلا أن الإعلام اكتفى في السابق بدور الجهاز التعبوي والدعائي، وفي أحسن الأحوال أدى الصحافي دور المستشار السياسي (على غرار هيكل في مصر الناصرية). وما نلمسه راهناً هو اتجاهان متداخلان: تحول الإعلام إلى أداة محورية في رهانات السيادة والقوة والدبلوماسية، وتحول الإعلامي من دور مراقب الفعل السياسي إلى دور صانعه.
لا نحتاج هنا للإشارة إلى دور بعض المؤسسات الإعلامية المتزايد في المشهد السياسي، وإلى بروز نموذج quot;الصحافي - الزعيمquot; بعد quot;الصحافي المرشدquot; وquot;الصحفي المحرضquot; وquot;الصحفي النجمquot;. وما تشهده الساحات العربية الثائرة من توسع مذهل في الصحف والقنوات الفضائية هو أثر جلي لهذا المشهد.
التعليقات