غسان العزي

الآن وقد شارفت الثورة الليبية على نهايتها بالانتصار على القذافي، فإن الأصعب هو الذي ينتظرها أي كسب معركة السلام وبناء دولة عصرية ديمقراطية مدنية كما وعدت . ومن الصعوبة بمكان توقع ما ستكون عليه ليبيا الجديدة في السنوات المقبلة، إلا أنه من الممكن تصور سيناريوهات محتملة الحدوث انطلاقاً من المعطيات المعروفة والتي يبني عليها المحللون الغربيون تحليلاتهم التي يتسم معظمها بالتشاؤم حيال مستقبل ليبيا . ومصدر هذا التشاؤم هو عدم ثقة الغربيين عموماً بمقدرة الشعوب والمجتمعات العربية على بناء حكم ديمقراطي رشيد لأسباب يعتقدونها سوسيولوجية وتاريخية ودينية وغيرها .

من مطالعة سريعة لهذه التحليلات، فإن أربعة أنواع من المخاطر تحيط بليبيا ما بعد - القذافي: الفوضى والأفغنة و التقسيم والإسلام المتشدد .

بالنسبة إلى الفوضى، فإن المهمة الملحة التي تواجه المجلس الانتقالي اليوم هي نزع سلاح الثوار وتسليم الأمن إلى جهة مسؤولة معترف بشرعيتها، وهذه مهمة ليست باليسيرة كما يدلنا تاريخ الثورات والحروب الأهلية . فمن جهة من سيقنع الثوار بأن المهمة قد انتهت وبأن عليهم تسليم سلاحهم والعودة إلى حياتهم الطبيعية قبل أن يطمئنوا إلى أن ما بذلوا الدماء من أجله سوف يتحقق، وبأن الدولة التي يصبون إليها هي التي ستمتلك شرعية استخدام العنف القانوني في سبيل بسط الأمن والاستقرار؟ والكل يدرك أن دون مثل هذه الدولة عقبات وعثرات لن ترفع في زمن قصير، وربما يضطر الليبيون في الانتظار إلى الموافقة على نشر قوات حفظ سلام في هذه الحالة، ومن الأفضل بل الضروري أن تكون عربية وإسلامية من دول أيدت الثورة وساعدتها .

وطالما أن القذافي مايزال حراً طليقاً وربما كان له مؤيدون مسلحون قادرون على زعزعة استقرار الدولة الفتية الناشئة، فمن الممكن أن يلجأ إلى الإرهاب وقد ينضم إليه في المستقبل غير البعيد أولئك الذين سيشعرون بخيبة أمل حيال الطريقة التي يجري فيها بناء الدولة . وهنا قد نقترب من سيناريو الأفغنة، حيث إن حركة طالبان تمكنت من الانبعاث مجدداً من تحت الركام لتحول دون قيام الدولة الأفغانية كما كان يخطط لها .

هذا السيناريو يستحضر شبح التقسيم حتى لو فشل القذافي في قيادة حركة إرهابية أو تم إلقاء القبض عليه أو قتله أو أنه هرب خارج البلاد . ذلك أن بناء الدول المتعددة، دينياً أو عرقياً أو قبلياً، على أساس تقاسم الحصص هو مقدمة لجعلها هشة أمام رياح الفتن والتقسيم . ولنا في لبنان والعراق عبرة لمن يعتبر . والمعروف أن ldquo;الدولةrdquo; الليبية تشكلت من ثلاث مقاطعات عثمانية احتلتها إيطاليا هي طرابلس وضواحيها وبنغازي وضواحيها، إضافة إلى فزان الصحراوية الغنية بالنفط . هذه المقاطعات بقيت الواحدة منها بعيدة عن الأخرى وفي حالة تنافس وتحاسد، من دون أن ننسى حالة مصراتة الخاصة التي تحولت بين عامي 1918 و1920 إلى جمهورية مستقلة تحدّت الإيطاليين . وقد لعب القذافي على هذا التنافس التاريخي بين هذه المناطق التي تضم قبائل كبرى، في سبيل تأبيد حكمه الذي استمر اثنتين وأربعين سنة .

وفي غياب قائد أو حزب أو غيره يلتف حوله الجميع في مجتمع مايزال أبوياً قبلياً إلى حد كبير، وفي غياب أيديولوجية واحدة يعتنقها الثوار، فإن الإسلام يبقى البوتقة التي ينصهر فيها الكل . من هنا القلق الغربي من أن ينتهي المخاض الليبي بسيطرة الإسلاميين المتشددين على الحكم . ذلك أن الولاءات في المجلس الانتقالي تتوزع ما بين خارجية (العقيد خليفة حفتر على سبيل المثال كان في الولايات المتحدة طوال عشرين عاماً وعاد إلى ليبيا بعد نشوب الثورة وله علاقات ب(السي .آي .إيه)، وقبلية (قبائل الفزان وبنغازي ومصراتة وسبها وغيرها)، وسلفية إسلامية (عبدالحكيم بلحاج فاتح باب العزيزية زعيم الجماعة الإسلامية المقاتلة سابقاً كان أحد الأفغان العرب الذين اعتقلتهم (السي .آي .إيه) وسلمته إلى القذافي الذي وضعه في سجن أبي سليم قبل أن يفرج عنه و 214 من رفاقه في عام 2010 بعد قيامه بمراجعة للفكر الجهادي أقنعت القذافي) . بلحاج الذي يصفه الغربيون اليوم بحاكم طرابلس العسكري ليس الإسلامي الوحيد في صفوف الثورة الليبية، فقد انضم إليه مئة عنصر وهناك من يقول ثمانمئة .

هذه بعض من السيناريوهات المتشائمة السائدة في الأدبيات الغربية التي قد تستخدم ذريعةً لتدخل أطلسي يضع يده على مستقبل ليبيا الغنية بالنفط، على الرغم من أن مؤتمر باريس للدول المانحة كشف عن رغبة المجتمع الدولى بمساعدة ليبيا ورعاية تحولها نحو الديقراطية .

والحقيقة أنه بمعزل عن هذه السيناريوهات وغيرها، فإن الثورة الليبية بينت حتى الآن عن وعي وإدراك كبيرين لمسؤوليتها التاريخية . لم تحدث عمليات نهب وفوضى أو ثأر وانتقام في بنغازي الثائرة ثم في طرابلس المحررة ، كما أن دخول الثوار بقية المناطق الليبية جرى بأكثر الطرق حضارية، وهذا أمر نادر الحدوث في تاريخ الثورات المسلحة . وهذا يبعث على قدر كبير من التفاؤل حيال مستقبل البلد . فالشعوب العربية، كما يقول المفكر الفرنسي إدغار موران في معرض رده على من ينظر بدونية إلى العرب والمسلمين، كغيرها من الشعوب تتطلع إلى الحرية والعدالة وتكره الظلم والتعسف . وهذا ما كشفت عنه الثورات الشعبية العربية، تلك التي نجحت وتلك التي تنتظر .

بالطبع سيكون هناك من الانتكاسات والصعوبات ما قد يبعث على اليأس، وسيكون المخاض طويلاً وأليماً، فالليبيون لم يعرفوا الدولة الحقيقية منذ أكثر من ستمئة عام، ولن يكونوا قادرين على بنائها من لاشيء بين عشية وضحاها . سيكون عليهم مواجهة عثرات الداخل وتدخلات الخارج الطامع بثرواتهم، فللحرية ثمن يستعد الليبيون لدفعه لتنعم بها الأجيال المقبلة .