أحمد فودة

يبدوا التصعيد الكبير الذي تمارسه تركيا تجاه إسرائيل في الأيام الأخيرة عقب تسريب تقرير لجنة التحقيق التي عينتها الأمم المتحدة في حادثة مقتل تسعة أتراك ممن شاركوا في أسطول الإغاثة الإنسانية الذي حاول كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة العام الماضي .. يبدوا وكأنه جاء متأخرا كثيرا، حيث كان من المتوقع حدوثه في الأيام التالية للجريمة الإسرائيلية، خاصة وأن التجارب التاريخية للصدام السياسي والدبلوماسي بين الدولتين تشير إلى أن تركيا لجأت إلى وسائل عقابية أشد في مواجهة جرائم إسرائيلية أصغر من تلك الجريمة التي سالت فيها دماء تركية للمرة الأولى.
كما يبدوا هذا التصعيد وكأنه يستغل ظروفا محلية وإقليمية ودولية متغيرة تأتي في صالح تركيا وحزب العدالة والتنمية الحاكم. فعلى المستوى المحلي استطاع الحزب توجيه الضربة القاضية لما تبقى من سيطرة المؤسسة العسكرية التركية على مفاصل السلطة في البلاد. وذلك بعد استقالة قيادات أفرع الجيش التركي الشهر الماضي احتجاجا على رفض رئيس الحكومة رجب أردوغان ترقية قيادات الجيش المقبوض عليهم بتهمة محاولة الانقلاب على الحكومة .. وهو ما أتاح الفرصة أمام الحكومة لاتخاذ قرارات التصعيد ضد إسرائيل بعد استبعاد حليفها الرئيسي في البلاد من عملية صنع القرار.
وعلى المستوى الإقليمي تأتي الثورات العربية التي أسقطت عدداً من النظام الحاكمة في الدول العربية، وما زالت تهز بقوة نظم حكم أخرى كانت تعتبر من أهم الأركان التي استند إليها التحالف الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة، مما جعل نفوذ هذا التحالف على المحك، وأصبح في حاجة إلى شريك جديد يستطيع التأثير في معادلة التوازن الإقليمية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في مواجهة إيران ..
أما على المستوى الدولي فهناك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والتي قلصت إلى حد ما من النفوذ الغربي على مستوى العالم. وأثارت تساؤلات حول مدى إمكانية استمرار القيادة الغربية للعالم، خاصة في ظل صعود قوى دولية أخرى لم تتأثر كثيرا بتلك الأزمة بل بالعكس تعززت قوتها الاقتصادية والسياسية في مواجهة الغرب، مثل الهند والصين وبعض دول أمريكا اللاتينية.
وفي إطار سعيها لتأخير مفاعيل هذه الأزمة في عملية السقوط القادمة للقيادة الغربية للعالم، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها للاستفادة من الثروات الموجودة في المنطقة العربية لإقالتها من عثراتها الاقتصادية، وذلك عبر استغلال التطورات الجارية في المنطقة من خلال الإعلان عن تأييدها للثورات العربية، إضافة إلى توطيد تحالفها مع الدول الصاعدة التي أصبح لها تأثير كبير في موازيين القوى في المنطقة، مثل تركيا.
من جانبها تسعى تركيا إلى استغلال هذه الظروف المحلية والإقليمية والدولية جيدا في زيادة قوتها وتثبيت زعامتها للمنطقة عبر محاور مختلفة. أولى هذه المحاور هو استغلال الثورات العربية وبناء علاقات قوية مع الشعوب العربية عبر الوقوف إلى جانبها ضد النظم الحاكمة كما حدث في مصر وليبيا وكما يحدث الآن في سورية.
والمحور الثاني هو توطيد تحالفها مع الولايات المتحدة وحلف الناتو عبر المشاركة الفاعلة للحلف في مناطق النزاع المختلفة، خاصة في المنطقة، والسماح بنشر رادارات الدرع الصاروخية لحلف الناتو لمواجهة أي تهديد قد تشكله الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي قد يتم إطلاقها من الشرق الأوسط وتحديدا من إيران التي وجهت انتقادات مباشرة لتركيا بسبب موافقتها على نشر هذه الرادارات.
أما المحور الثالث للدبلوماسية التركية لتعزيز مواقعها فيتمثل في التصعيد السياسي والدبلوماسي ضد إسرائيل من أجل كسب مزيد من الشعبية على المستوى الداخلي وكذلك على مستوى الشعوب العربية والإسلامية، فضلا بطبيعة الحال عن تحجيم القوة والنفوذ الإسرائيلي في المنطقة لصالح الدور التركي الصاعد.
لكن ماذا عن الدور العربي خاصة بعد نجاح الثورات العربية؟ هل سيسمح لتركيا بتثبيت زعامتها الإقليمية؟ الأيام والشهور القادمة ستجيب عن هذا السؤال.