محمد نور الدين

كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يقول إن لكل قضية حساباتها، وبالتالي موقفاً مختلفاً لتركيا منها . والطريقة التي تتعامل تركيا فيها مع روسيا مثلاً تختلف عن تعاملها مع اليونان أو فرنسا أو فلسطين وما إلى ذلك . أي أن قواعد اللعبة لا يمكن أن تكون واحدة في كل القضايا .

طبقت تركيا بنجاح منقطع النظير هذه السياسة في ما يتعلق بالثورات العربية التي حصلت . فموقف أنقرة من مصر كان دعوة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان للرئيس حسني مبارك بالتنحي، وإقامة نظام ديمقراطي، والإسراع بنقل الجيش للسلطة إلى سلطة مدنية .

وفي تونس كان الموقف التركي مؤيداً لرحيل زين العابدين بن علي وإحلال الديمقراطية هناك .

أما في ليبيا فكان الموقف حذراً جداً، نظراً لمصلحة تركيا الاقتصادية هناك ونظراً أيضاً لأن الوضع في ليبيا مختلف عن مصر وتونس، حيث ليبيا تعني النفط وتعني أيضاً الانقسامات القبلية والمناطقية وما قد يجر ذلك إلى تقسيم للبلاد ووضع الغرب يده عليها استنساخاً للنموذج العراقي، وإن بأدوات احتلال مختلفة بعض الشيء وهو ما تعارضه تركيا .

وفي البحرين كان الموقف التركي منتقداً ومحذراً من احتمالات حصول كربلاء جديدة بمعزل عن علاقات تركيا مع دول الخليج عموماً . وفي اليمن كانت تركيا داعية إلى تلبية متطلبات الشعب .

لكن الحالة في سوريا بالنسبة لتركيا أمر مختلف كلية . عادت تركيا هنا إلى دائرة المصالح الوطنية المباشرة المتمثلة في الدائرة الجغرافية الأولى المحيطة بتركيا التي تشمل عربياً سوريا والعراق وإسلامياً إيران .

الاضطرابات في سوريا في نهاية الأسبوع المنصرم، ولا سيما في درعا كانت مثار اهتمام تركي كامل . ومنذ اللحظة الأولى كان أردوغان يطلق دعماً للرئيس السوري بشار الأسد، كما يعلن وزير الخارجية أحمد داود أوغلو مساندته للخطوات الإصلاحية التي كان سيعلنها الأسد . وفي أبرز دلالة على الاهتمام التركي بسوريا إرسال أردوغان رئيس الاستخبارات التركية، حاقان فيدان، إلى دمشق للتداول بالوضع مع المسؤولين السوريين .

لم تفعل تركيا ذلك مع أي دولة عربية أخرى شهدت اضطرابات وانتفاضات، حتى لو فعلت ذلك فإن موقفها كان سيكون مختلفاً من الوضع في سوريا .

منذ اللحظة الأولى لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 راهنت تركيا على علاقات استراتيجية مع سوريا . فالسياسة الانفتاحية الجديدة لتركيا والساعية لدور مؤثر في المنطقة لم يكن ممكناً من دون البوابة السورية . وبفضل هذه البوابة أمكن لتركيا تحقيق الجزء الأكبر من أهدافها في المنطقة . شكلت سوريا لتركيا بوابتها إلى العالم العربي: بوابة جغرافية واقتصادية وسياسية ونفسية .

فمع أن العراق يقع على الحدود الجنوبية لتركيا، لكن بوابته يقف على حراستها أكراد شكلوا دولتهم شبه المستقلة . ومع سوريا 800 كلم من الحدود المفتوحة على كل الاحتمالات .

وفي ظل التحديات الكردية الانفصالية في تركيا وفي سوريا إلى حد ما فإن الشراكة المصلحية حكمت التعاون بين أنقرة ودمشق . وبفضل سوريا دخلت تركيا إلى الصراع العربي - ldquo;الاسرائيليrdquo; وسيطاً في دور كانت تحتاجه وتسعى إليه فأمّنه لها بشار الأسد .

وبفضل استعداد سوريا للتعاون وفتح الحدود أمكن مدّ أول جسور للتواصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي من خلال فتح الحدود وإقامة مشاريع التعاون الاقتصادي وآخرها إقامة سد مشترك على نهر العاصي .

ومن سوريا دخلت تركيا الحديقة اللبنانية، ومع سوريا كان لتركيا المزيد من التقارب والتعاون مع إيران .

لكن في الوقت نفسه لا يمكن لتركيا المنتمية إلى قائمة الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أن تمضي في الدفاع إلى النهاية عن النظام السوري . فكانت النداءات العلنية منها وغير المعلنة من جانب أردوغان إلى الأسد بضرورة إجراء إصلاحات سياسية تمنح الشعب السوري المزيد من الحريات وتخرج النظام من دائرة الحصار . وهنا تلعب تركيا دوراً مهماً في اقناع القيادة السورية بضرورة التغيير، الأمر الذي يساعد على الاستقرار في سوريا واستمرار العلاقات الوثيقة بين البلدين .

سوريا تحتاج بالتأكيد للإصلاح والتغيير وتركيا معنية بالتأكيد باستمرار علاقاتها الاستراتيجية مع سوريا . وهذه هي العلاقة الجدلية التي تجعل من العلاقات بين أنقرة بأهدافها الحالية، ودمشق، بسياساتها الحالية، عصية على الانفكاك .