وحيد عبدالمجيد

عندما يصر مسؤولون إيرانيون على أن ثورة 25 يناير الديمقراطية المدنية التي شارك فيها مسيحيون ومسلمون إنما هي تعبير عما يسمونه quot;صحوة إسلاميةquot; بدأتها ثورة آيات الله عام 1979، فهذا دليل إضافي على حاجة مصر إلى التأني بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين. فهذا موقف يرى فيه كثير من المصريين استعلاء، فضلاً عن أنه يقوم على خطأ جوهري. كما أن quot;النموذجquot; الإيراني ليس ملهماً، ولا يمكن أن يكون قادراً على الإشعاع، ليس فقط لأنه مذهبي، ولكن لأنه أقلوي في أوساط الشيعة أيضاً. فأغلبية الشيعة أنفسهم في العالم الإسلامي لا يؤمنون بنظرية quot;ولاية الفقيهquot; التي يقوم عليها النظام السياسي والاجتماعي في إيران.


غير أن هذا ليس السبب الوحيد الذي يدفع إلى تفضيل تمهل quot;مصر الجديدةquot; في تحديد مسار العلاقات مع إيران في الفترة القادمة. وهذا هو الاتجاه الذي تبناه المجلس العسكري الذي يدير شؤون البلاد في المرحلة الانتقالية عندما قال إن مسألة العلاقات مع إيران متروكة للحكومة المنتخبة. فالحكومة الانتقالية الراهنة ليست مخولة بذلك بغض النظر عن موقف من يشغل موقع وزير الخارجية فيها. فلم يكن تصريح الوزير الأسبق وأمين الجامعة العربية الآن نبيل العربي في 30 مارس الماضي أن مصر تحرص على العلاقات مع إيران إلا إعلاناً عاماً عن الاستعداد لفتح صفحة جديدة. وهو نفسه الذي رد على سؤال عن إعادة العلاقات بقوله إن الأمر يتوقف على الطرفين. ويعني ذلك، بين ما يعنيه، أن على إيران بدورها مراجعة سياستها الإقليمية. وهذا هو الاتجاه الذي استمر رغم تغير وزير الخارجية في مصر مرتين (محمد العرابي ثم محمد كامل عمرو) بعد أن تولى العربي الأمانة العامة للجامعة العربية. فمنذ تأسيس هذه الجامعة، اعتبرت مصر الأمن الجماعي العربي أحد أهم محددات علاقاتها الإقليمية والدولية. لذلك فمن الطبيعي أن تكون المحافظة على الأمن عموماً، وفي منطقة الخليج خصوصاً، من بين هذه المحددات في الفترة القادمة.
فقد بنت إيران سياساتها الإقليمية القائمة على التمدد السياسي والمذهبي والاستحواذ على أوراق عربية بينما اختارت مصر تحجيم دورها في المنطقة لأسباب يختلف المراقبون بشأنها. لكن ما قد لا يكون ثمة خلاف كبير عليه هو أن تقلص دور مصر الإقليمي تدريجياً منذ منتصف السبعينيات، وتراجعه بوضوح في العقد الأخير بصفة خاصة، أتاح لإيران السعي إلى ملء فراغ ترتب على ذلك.

وظهر أثر تقلص الدور المصري، كما لم يظهر من قبل، عندما تبين أن إيران هي المستفيد الأول من الحرب الأميركية على العراق الذي تحول من حاجز أمام نفوذها الإقليمي إلى معبر لها. وبعد أن كانت مصر quot;صانعةquot; الحكومات في العراق ذات يوم في ستينيات القرن الماضي، أصبح لإيران الدور الأكبر في هذا البلد. وتجاوز نفوذها الأطر الرسمية عبر التغلغل في المجتمع أيضاً.

وقد تعودت إيران على هذا الوضع الذي لم يظهر بعد ما يدل على إدراكها ضرورة مراجعته وإعادة النظر في سياستها تجاه العرب عموماً وفي منطقة الخليج خاصة. فلا يمكن لمصر أن تستعيد دورها الإقليمي في ظل سيطرة إيران على العراق وتهديدها لبعض دول الخليج وتغلغلها في دول عربية أخرى.

ولا يعني ذلك أن تطور دور مصر الإقليمي يرتبط بمنافسة إيران على النفوذ الإقليمي، أو إعادة إنتاج سياسة القاهرة في العصر الناصري الذي انتهى عالمه. فالدور الجديد الذي ينتظر مصر في الفترة المقبلة هو التعاون مع الدول العربية المستقرة، وفي مقدمتها دول الخليج، لتطوير منظومة قادرة على تحقيق التوازن الضروري مع القوى الإقليمية بما فيها إيران.

لقد أصبح العرب الطرف الأضعف في الشرق الأوسط، ونجحت إيران في استثمار فائض الشعور بالغبن والغضب لدى قطاعات من الشعوب العربية تجاه إسرائيل والسياسة الأميركية المنحازة لها عندما كانت مصر حريصة على إرضاء هذه السياسة إلى حد أنها ترددت في التجاوب مع الجهود السعودية الساعية لمصالحة عربية عامة حال دونها التنافر بين القاهرة ودمشق.

أما وأن السياسة المصرية ستكون أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة وإسرائيل، أو هكذا يُفترض، فهذا يعني أن quot;الرصيدquot; الذي جمعته إيران عبر استغلالها ضعف موقف القاهرة لن يبقى كما كان، وأن فرصة بناء منظومة عربية متماسكة ستزداد تدريجياً.

ويعني هذا أنه لا معنى للحديث عن إعادة العلاقات المصرية مع إيران بدون حوار صريح حول القواعد اللازمة لتفادي صدام محتمل في حال استمرار سياسة طهران الإقليمية الراهنة وكأن شيئاً لم يتغير في القاهرة. ولن يتيسر ذلك بدون إدراك إيران أن هذا التغيير صنعه الشعب المصري لأسباب في مقدمتها استعادة كرامة أفراده وأمته. وفي ظل مثل هذا التغيير، لا يمكن أن تقبل مصر أي شكل من الاستكبار أو التدخل في الشأن العربي عموماً، سواء من جانب إيران أو غيرها بما في ذلك إسرائيل.

ويعني ذلك أن تحسين العلاقات بين مصر وإيران لا يمكن أن يتحقق من جانب واحد، وأن استعداد طهران سيكون شرطاً لازماً. فبدون مراجعة سياستها الخارجية وفق قواعد جديدة، سيأخذ الخلاف بين البلدين طابعاً مختلفاً وسيتحول من سجالات إعلامية ومناكفات على قضايا صغيرة، مثل اسم شارع هنا أو مضمون فيلم سينمائي هناك، إلى منازلة سياسية لم تكن ممكنة قبل ذلك في ظل تقلص دور مصر وافتقادها رؤية لمستقبل المنطقة في مواجهة المشروع الإيراني.

ولذلك فأكثر ما يحتاجه البلدان الآن هو حوار صريح وشفاَّف يتجاوز الإطار الثنائي، ليكون حواراً عربياً إيرانياً يتسع لتركيا أيضاً في حال إحراز تقدم لا سبيل إليه بدون استعداد طهران لتغيير سياستها الإقليمية التدخلية والتوافق على قواعد لإدارة العلاقات.

وهكذا، يظل استعداد إيران لأن تتغير هو العامل الرئيسي لعلاقات أفضل مع مصر. ولن يكون هذا الاستعداد ممكناً بدون إدراك إيران أن مصر تتغير وأن نظام الحكم فيها سيخضع لمحاسبة شعبية حقيقية، بخلاف ما يحدث في طهران.

فلن يكون في مصر quot;مجلس صيانة دستورquot; يتولى تصفية المرشحين للانتخابات سواء الرئاسية أو البرلمانية ويشطب معظمهم. وهذا فرق جوهري ينبغي أن تحسب إيران حسابه، وأن تفكر في كيفية إدارة العلاقات بين حكم شعبوي يدعي تمثيل الشعب عن بكرة أبيه، وحكم شعبي منتخب في انتخابات حرة تنافسية مفتوحة لا إقصاء فيها ولا استبعاد.

فهل تملك إيران بتركيبتها السياسية الراهنة استحقاقات إعادة العلاقات مع quot;مصر الجديدةquot;، ومن ثم مراجعة سياستها في المنطقة؟ إنه السؤال الجوهري الذي يتطلب جواباً إيرانياً واضحاً.