نبيل علي صالح

إنها تركيا أيها العرب.. عقلية إدارية غربية بفكر إحيائي إسلامي وعباءة تقليدية عثمانية. تقارب تركيا الملف السوري الشائك -والعصي على الحل كما يبدو حاليّاً- من زوايا ووجوه سياسية واستراتيجية عدة، يمكن اختصارها فيما تؤكد عليه القيادة التركية برئاسة حزب العدالة والتنمية الحاكم، من أن هذا الملف السوري المتأزم والمعقد هو مشكلة داخلية لتركيا قبل أي شيء آخر.. وهذا يعني -بلغة الترجمة السياسية- أن درجة الاهتمام به من قبل القيادة التركية الحاكمة تصل إلى المستوى السياسي والعسكري الأول، خاصة مع الحضور السياسي والإعلامي الدائم لهذا الملف في مجمل المشهد السياسي والمجتمعي التركي.

وربما يكون من أسباب هذا الاهتمام التركي الخاص بهذا الملف وجود رغبة شعبية عربية وسورية بالأخص للمساعدة في الحل، بسبب من الجوار التاريخي والثقافي الديني،مضافاً إليه أن القيم التركية المؤسسة من الديمقراطية وحقوق الإنسان والنجاح الاقتصادي التنموي تتطابق مع مفردات الربيع العربي ونسائم الحرية العليلة التي بدأت مع ثورة تونس.


وبعد تصاعد حدة الأزمة السياسية السورية الداخلية، وعجز الساسة السوريين -منذ بداية الأحداث في درعا- عن احتواء خلفيات المشكل البسيط الذي تسبب في التفجر، وعدم إيجاد مخارج حكيمة وعقلانية سلمية لتلك المشكلة التي تفاقمت لاحقاً وتدحرجت ككرة الثلج، سعى الأتراك للعب دور الوسيط السياسي المتوازن، والحامل والضامن والمرشد لمشروع الإصلاح السياسي السوري. هذا في حين كان هناك إصرار دائم لدى المسؤولين في سوريا على رفض وإنكار تسمية المظاهرات في سوريا، بأنها مظاهرات سلمية إصلاحية، على رغم وصفهم لتلك المطالب المرفوعة في البداية بأنها مطالب quot;محقة وعادلةquot;.. فكل ما يجري حاليّاً في نظرهم هو quot;مؤامرة خارجيةquot; حيكت ضد سوريا الشعب والنظام في ليل أليل، شاركت فيها تركيا، بالتعاون والتنسيق مع دول أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل، وتهدف تلك المؤامرة إلى إسقاط النظام السوري الممانع وآخر حصون وقلاع المقاومة، ومعاقبته على احتضانه الدائم السابق والحالي لمشروع وثقافة الممانعة.
ولكن الذي جعل المواقف تتصاعد وتنضغط أكثر فأكثر مؤخراً، بحيث زادت في سخونة المرجل، ورفعت في درجات تسخين مسار العلاقات بين تركيا وسوريا على وجه الخصوص، حتى وصلت إلى حد القطيعة الكاملة حاليّاً، هو تصريح لأردوغان أكد فيه quot;عدم الرغبة في الحديث مستقبلاً مع الأسدquot;، معتبراً أنه quot;ينبغي على القادة السياسيين أن يؤسسوا حكمهم على العدالة، ورضى الناس، وليس على الدم والعنف، وأن من يحكم بالدم سيذهبه الدمquot;.

والسؤال: ما الذي باستطاعة تركيا أن تفعله على حدودها الجنوبية؟! وهل ستبقى هي نفسها في مأمن من لهيب، وربما حرائق المنطقة، وخاصة أنها تسعى لتأمين وتحقيق سلم أهداف اقتصادية وتبادلات تجارية وثقافية مع دول الشرق والجنوب، بعد أن تضاءل أملُها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أدى إلى قيامها بتكثيف مجمل نشاطاتها وعلاقاتها بالمشرق العربي والإسلامي؟

في مواجهة تحديات الجوار العربي والسوري يبدو القادة الأتراك في موقف لا يحسدون عليه، وهم يسيرون على حد الشعرة المربوطة فوق مراجل أودية المنطقة العميقة.. مما يجعلهم في حالة ترقب وقلق دون شك مثل غيرهم، ولكن بدرجات أقل جداً.. وإن كانوا غير متعبين، لأن لديهم أوراقاً كثيرة للعب السياسي وغير السياسي.. والعقل التركي العثماني عرف عنه تقليديّاً عدم تهيبه للأهوال والمصاعب، بل ووقوعه فيها، من منطلق quot;إذا هِبت أمراً فقع فيهquot;. والأمر ربما يحتاج منهم فقط إلى بعض المحاذرة، وليس إلى مزيد من المناورة!