محمد السماك

فجأة ومن دون سابق إنذار، وخلافاً لكل المواقف المعلنة، التقى الجمعان في عمان، الفلسطينيون والإسرائيليون، بدعوة أردنية وبرعاية اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة).

وفجأة طويت صفحة الشروط، والشروط المعاكسة لعقد الاجتماع.

فهل يغير ذلك من الواقع. وهل تخرج المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية من الطريق المسدود؟

يروي وزير خارجية أستراليا السابق غاريث إيفانس حديثاً جرى بينه وبين إسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق.

يقول إيفانس إنه كان يزور تل أبيب بصفته وزيراً لخارجية بلاده من أجل حثّ رابين على تنفيذ اتفاق أوسلو (1990) مع السلطة الفلسطينية، الذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية.

ويروي أنه عندما انتهى من شرح وجهة نظره التشجيعية لرابين، قال له وهو يبتسم: quot;أعتقد أنني أبشّر من تحوَّل فعلاً، أليس كذلكquot;.. فردّ رابين بابتسامة مماثلة: quot;بل إنك تبشر من التزم فعلاًquot;. وبعد أيام قليلة، وفي شهر نوفمبر 1995 قام يهودي متطرف باغتيال رابين في تل أبيب. وكان أول رئيس حكومة إسرائيلية يقتل على يد يهودي متطرف.

ويذكر الوزير الأسترالي أنه منذ ذلك الوقت لم يقترب أي من رؤساء الحكومات الإسرائيلية من الموقف الذي كان رابين قاب قوسين أو أدنى من اتخاذه. فلا باراك، ولا أولمرت، على رغم كل ما أبدياه من ليونة سياسية، استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه رابين. فقد اقتنع هذا الأخير بأن سلامة إسرائيل ومستقبلها وديمقراطيتها تتوقف على وجود دولة فلسطينية تعيش إلى جانبها بأمن وسلام.

وجاء نتنياهو بعد ذلك، لينسف كل هذه الآمال وليطوي ليس فقط صفحة رابين، بل صفحة باراك وأولمرت معاً.

ومع تحالفه مع وزير الخارجية الحالي أفيغور ليبرمان واعتماده من أجل توفير الأكثرية المؤيدة لحكومته في الكنيست، على الحزب الديني المتشدد، يكون نتنياهو قد انقلب على مساعي التسوية السياسية رأساً على عقب. ويشكل هذا الموقف الإسرائيلي إحدى الركيزتين اللتين تقوم عليهما quot;دبلوماسية المفاوضات من أجل المفاوضاتquot;، أو دبلوماسية الدوران في الحلقة السياسية المفرغة. أما الركيزة الثانية فتتمثل في الموقف الأميركي.

فكما انتقل الموقف الإسرائيلي من انفتاح رابين إلى انغلاق نتنياهو، بدا لحين من الوقت أن الموقف الأميركي انتقل من انغلاق بوش إلى انفتاح أوباما. وقد جاء خطاب أوباما في جامعة القاهرة ليعلن هذا الانفتاح ويؤكده. ولكنه سرعان ما استسلم لقوى ضغط اللوبي اليهودي واللوبي الصهيوني المسيحاني في الولايات المتحدة، وانقلب تاليّاً هو الآخر رأساً على عقب أيضاً. وقد تجسد ذلك في رفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية عندما طرح موضوع الاعتراف بها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما تجسد في تهديده باستخدام حق quot;الفيتوquot; ضد الاعتراف بها في مجلس الأمن الدولي. وتمثل كذلك في رفض الاعتراف بعضوية فلسطين في منظمة اليونسكو، ومن ثم معاقبة السلطة الفلسطينية بوقف المساعدات المالية المخصصة لها بسبب رفضها العمل بالنصيحة الأميركية بشأن عدم التقدم بطلب الانضمام إلى المنظمة الدولية.

وكلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، يزداد أوباما ازوراراً عن مواقفه الأخلاقية وتراجعاً عن وعوده السياسية التي أعلنها في جامعة القاهرة، وحتى قبل ذلك في خطاب القسَم الرئاسي. ويبدو أن الحاجة إلى صوت الناخب اليهودي، وإلى تمويل المال اليهودي، وإلى الترويج الدعائي للإعلام اليهودي، نقلت أوباما من شخصية رابين إلى شخصية نتنياهو مباشرة، ومن دون المرور عبر شخصية أي من باراك وأولمرت!

والآن بوجود الثنائي نتنياهو في إسرائيل وأوباما في البيت الأبيض، فإن من العبث توقع أي خطوة إلى الأمام في مساعي التسوية السياسية. وإذا فشل أوباما في الانتخابات الرئاسية، ووصل إلى البيت الأبيض واحد من مرشحي الحزب الجمهوري، فإن الوضع سيكون بالتأكيد أشد خطراً وأكثر تعقيداً. فالمرشحون الجمهوريون يعتمدون أساساً على أصوات اليمين الديني الإنجيلي المتطرف -كما كان الأمر مع بوش. ولعل أبرز هؤلاء المرشحين نيوت غيغريتش الذي يعتبر quot;أن الشعب الفلسطيني شعب مخترَع وأن من حق إسرائيل ومن واجبها عدم الانسحاب من أي شبر من أرض الميعادquot;.

وتضاف إلى ذلك quot;حالة اللاتوازنquot; التي يمر بها العالم العربي في الوقت الحاضر، والتحولات الطارئة على سلم الأولويات التي يفرضها التوتر المتصاعد مع إيران من جهة، والخلل المتسع مع تركيا من جهة ثانية.

إن إفشال السلطة الفلسطينية برئاسة عباس في رهانها على الدعم الأميركي لتسوية سياسية عادلة على قاعدة الدولتين عزز من منطق حركة quot;حماسquot; في غزة. وهو عكس ما تتطلع إليه إسرائيل وما تسعى إليه الولايات المتحدة.

وقطع الطريق أمام اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية، قطع الطريق أمام دفع عملية الاعتراف المتبادل التي ما كان يتوقع أن يتوقف التبادل فيها على إسرائيل والسلطة الفلسطينية وحدهما. وهو أيضاً عكس ما تتمناه إسرائيل وما تعمل عليه الولايات المتحدة.

وقد دفع وقف المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية عباس إلى حدود اليأس. ذلك أنه عندما تصادر إسرائيل حق السلطة من الرسوم التي تجبيها نيابة عنها -ورغماً عنها- وهي تشكل مع المساعدات الخارجية 80 في المئة من موازنة السلطة؛ وعندما يوقف الكونجرس الأميركي ثلثي المساعدات السنوية المخصصة لها والبالغة 600 مليون دولار، فإن السلطة تدرك أن الخيوط التي تشدها إلى التسوية السياسية قد قطعت. وهو عكس ما تريده إسرائيل وما ترمي إليه الولايات المتحدة. فأي منطق يبرّر سدّ الآفاق السياسية في وجه التسوية؟

لقد انفتحت طريق عضوية الأمم المتحدة أمام دول عديدة صغيرة لفظتها براكين الأحداث الدامية مثل البوسنة والهرسك في أوروبا، وأريتريا وجنوب السودان في إفريقيا، وتيمور الشرقية في آسيا. وحدها فلسطين وبسبب quot;الفيتوquot; الإسرائيلي والابتزاز الصهيوني للولايات المتحدة، أقفلت المنظمة الدولية أبوابها في وجهها.

لقد حاول الفلسطينيون انتزاع الشرعية الدولية لدولتهم الوطنية بقوة المقاومة. ودفعوا ثمن ذلك عشرات الآلاف من الضحايا. وحاولوا الحصول على هذه الشرعية بالتي هي أحسن، وبالدبلوماسية الهادئة وقدموا من أجل ذلك تضحيات وتنازلات كبيرة، ولكن دون جدوى أيضاً، علماً بأن الأمم المتحدة هي في الأساس صاحبة مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وإسرائيلية. وهي أيضاً صاحبة القرار 194 الذي يتعلق بحق الفلسطينيين في العودة، وهي كذلك صاحبة القرارين 242 و 338 اللذين ينصان على وجوب انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة (وكذلك من بقية الأراضي العربية المحتلة) مقابل الاعتراف بها داخل حدود آمنة.

ولكن يبدو أن التحول الإسرائيلي من رابين إلى نتنياهو، والتحول الأميركي من أوباما بعد انتخابه، إلى أوباما المرشح ثانية للرئاسة، ينعكس أيضاً على الأمم المتحدة، فهي أيضاً تناقض نفسها وتتنكر لقراراتها وحتى لميثاقها.

وأمام هذه التحولات المبدئية، ماذا باستطاعة السلطة الفلسطينية أن تفعل؟ بل ماذا تبقى لها من سلطة، وهي تقف عاجزة أمام التوسع الاستيطاني في القدس وفي الضفة الغربية، وأمام التهويد المستشري الذي ينتهك كل القوانين والمواثيق الدولية؟

في حديثه عن رابين، وصف وزير الخارجية الأسترالية السابق اغتياله بأنه كان كارثة. وكذلك فإن أوباما عندما نكث بوعوده للفلسطينيين والعرب والمسلمين، كان كارثة أيضاً. وإذا وصل جمهوري جديد إلى البيت الأبيض، فإن الكارثة ستكون أكبر.