عبدالعزيز المقالح

ما يحزن في موضوع العراق اليوم أن المتفائلين من أبنائه وأشقائهم لم يعودوا يتحدثون عن عراق واحد وإنما عن ldquo;عراقاتrdquo; وأقاليم تتوزعها الأهواء الطائفية والمذهبية، وتلك واحدة من أهم مخلفات الاحتلال الأجنبي الذي طالبت به ورحبت بوجوده بعض المكونات السياسية التي تجاهلت حقيقة أن الشعوب التي لا تستطيع أن تحرر نفسها بنفسها من الطغاة الذين صنعتهم بصمتها وخضوعها لا تستحق الحرية ولا حتى الحياة، وهي جديرة بأبشع وأشد أنواع الطغيان والديكتاتوريات . ولأنها تستعين بالآخر الاستعماري، لدحر المستبد الداخلي، تكون كالمستجير من الرمضاء بالنار . وما حدث في العراق بالأمس القريب لم يكن ليختلف عما كان يحدث عبر التاريخ من نماذج الاستعانة بالأعداء على الحاكم الظالم وكيف أن العدو لا يمكن أن يكون منقذاً أو محرراً، وهو الذي ينتظر بفارغ الصبر لحظة الانقضاض على البلد والشعب المستعين به لتمزيق أبنائه ونهب ما استطاع من ثرواته .

والذين أوقعوا العراق في مأساته الراهنة، التي حتماً ستترك آثارها الكارثية على العراق لزمن طويل بذهابهم إلى استدعاء العدو المتربص لتحريرهم من الديكتاتور، لم يكونوا أغبياء لا يدركون الفارق بين الرمضاء والنار وبين الخطر والأخطر، بل كانوا يدركون الفارق ويقرأون العاقبة، لكن الأطماع الصغيرة والمؤقتة والخصومة السياسية تعمي الأبصار وتجعل الرؤية الآنية تحجب ما وراءها، وكيفما كان الحال فقد تم الأمر وعاش العراق أعواماً تسعة تحت وطأة الاحتلال الذي جثم على صدر الشعب في العراق ومارس طوال هذه السنوات السوداء كل ما كان يحلم به من رسم خريطة التقسيم السياسي والطائفي ldquo;سايكس الثانيةrdquo;، ولم يخرج إلا بعد أن حقق للكيان الصهيوني أهم هدف كان يرنو إليه، وهو تحطيم القوة العظمى التي كانت تتهدد وجوده ممثلة في العراق البوابة الشرقية للعرب، العراق الذي هب بعد النكبة في عام 1948م، وهب في عام النكسة ،1967 وكان واحداً من الحصون المنيعة للعروبة عبر التاريخ .

إن عراق ما بعد الاحتلال هو عراق مفكك تتنازعه الأهواء، وغالبية أبنائه تعيش على كف عفريت من الطائفية والمذهبية والعرقية، وبعد أن كان عراقاً واحداً أصبح ldquo;عراقاتrdquo; متعددة الانتماءات والمواقف: عراق للأكراد، وعراق للسنة، وعراق للشيعة، وعراقات صغيرة أخرى للأقليات التي ستجد نفسها بعد انفراط وحدة الوطن الواحد وتدمير مقومات المواطنة المتساوية في أسوأ حالة، ولن ينقذها سوى اللجوء إلى القوى الأجنبية الكبرى بحثاً عن الأمان وحماية مكوناتها الذاتية، وهو بعض ما كانت تلك القوى الأجنبية تبحث عنه وتخطط له، وهو أيضاً ما برع الاحتلال في إبرازه والتمكين له والعمل على وضعه .

والعجيب أن العرب الذين تفرجوا على مسرحية الغزو الأمريكي للعراق وبرروه وشرعنوه، وتابعوا المشهد وكأنه يتم خارج وطنهم الكبير، بل خارج الكوكب الأرضي الذي ينتمون إليه ويعيشون على ظهره، هؤلاء العرب مايزال موقفهم مما يحدث في العراق نفسه، يتفرجون في صمت ويرون العراق يتفتت ويتلاشى وكأنه في كوكب آخر، وإن تجزئته وتدمير مقوماته الوطنية والثقافية ستعود عليهم بأخطر العواقب، ولا حقيقة في ما يذهب إليه البعض من أن العرب منشغلون بما هو أهم، بالانتفاضات والثورات التي تقرع أبوابهم وتسعى إلى الانقضاض على ما تبقى من الكيانات الوطنية التي استطاعت الإخلاد إلى النوم الطويل ورفض كل محاولة للتغيير نحو الأفضل استجابة لمنطق الحياة ولسنة الله التي لن يجد لها البشر تبديلاً .