أحمد عبد المعطي حجازي

العقبة التي تواجهها الديمقراطية وستظل تواجهها أنها ليست مصلحة مادية مباشرة تخص طبقة أو جماعة دون غيرهاrlm;,rlm; وإنما هي في أساسها قيم انسانية تنبع من الجميعrlm;,rlm; وتتحقق بالجميعrlm;.rlm;

ونحن نعرف أن الناس متساوون من حيث إنهم جنس واحد. لكنهم ليسوا متساوين فيما يتمتعون به من قدرات وما يملكون من ثروات. ملاك الأرض والمال, ورجال الحرب, ورجال الدين والثقافة يملكون ما لا تملكه أكثرية المواطنين من الفلاحين والعمال البسطاء. ولكل من هذين الطرفين موقفه من الديمقراطية.
الأقلية التي تملك المال والنفوذ لا تجد في نفسها حاجة ماسة للديمقراطية. لأن ثرواتها وخبراتها المتوارثة توفر لها الكثير, القوة, والتحرر من كل قيد, والقدرة علي التجاوز والعمل بقانون الغاب الذي يطلق يد الأقوياء, ويعطيهم لا بقدر ما يستحقون أو بقدر ما ينتجون, بل بقدر ما يستطيعون أن يضعوا أيديهم عليه من الثروة والسلطة, مدعين أن سلالتهم أرقي ودماءهم أنقي, أو أنهم سادة البلاد بالوراثة أو بالفتح, أو حملة الرسالة وحماة الدين. فإن لم يقتنع الناس بهذه الدعاوي جرد الطغاة سيوفهم كما صنع المعز عندما دخل بلادنا مدعيا أنه حفيد فاطمة الزهراء, فلما وجد في الذين استقبلوه من شكوا في نسبه نثر علي رؤوسهم دنانير الذهب وقال: هذا حسبي! ثم جرد سيفه وقال: هذا نسبي! وفي هذا يقول المعري كأنه يوجه الكلام لنا:
تلوا باطلا, وجلوا صارما وقالوا: صدقنا؟ فقلتم: نعم!
والذي فعله الطغاة عندنا فعلوه في كل مكان. الأثينيون الذين سبقوا البشر جميعا في طلب الديمقراطية والتعرف عليها وتعبيد الطريق إليها بما سنوا من قوانين, وبما وضعوا من فلسفات ونظريات ودساتير عانوا كما عانينا من حكم الأقلية الارستقراطية ومن حكم الطغاة وأبناء الطغاة.
والديمقراطية التي يبدو الآن أنها انتصرت في كثير من بلاد العالم ظلت مجهولة ومحاربة إلي أن قام الانجليز بثورتهم في نهايات القرن السابع عشر, وتلاهم الأمريكيون والفرنسيون الذين حولوا الديمقراطية في القرنين الأخيرين إلي عقيدة راسخة تبناها البشر جميعا, وناضلوا في سبيلها, وبنوا حياتهم في هذا العصر علي أساس من مبادئها وقوانينها التي حلت محل قانون الغاب.
قانون الغاب الذي خضع له البشر طوال العصور الماضية, ولا يزال بعضهم خاضعا له حتي الآن ـ هذا القانون ينظر للفرد لا من حيث هو إنسان أو مواطن أو عضو في جماعة منظمة, بل من حيث هو فرد أو رأس في قطيع لا يتميز عن غيره إلا بما يملك من قوة. فإذا كنت قويا فافعل ما بدا لك. فالبقاء في قانون الغاب للأقوي. وكل شيء بالنسبة له مباح. أما الديمقراطية فهي النظام الذي بدأ البشر طريقهم إليه حين تطوروا فأصبحوا شعوبا بعد أن كانوا قطعانا. وعندئذ خرجوا من الغاب ليؤسسوا المجتمع الذي تعددت مطالبه, وارتقت خبراته, وتخصص أبناؤه كل منهم في حرفة أو عمل أو فن يحتاج اليه الجميع وتتحقق به حاجاتهم وتتكامل حياتهم. فالجماعة محتاجة لكل فرد فيها. وكل فرد محتاج للجماعة التي كان لابد لها من مؤسسة تمثلها وقانون تسير عليه بدلا من قانون الغاب الذي أصبح عاجزا عن حماية أفراد الجماعة حتي الأقوياء منهم. لأن القوة لا تبقي علي حال. والقوي اليوم ربما وجد نفسه ضعيفا غدا, ليس فقط لأن قوته تتناقض, بل أيضا لأن قوة غيره تزداد. ولهذا لا يكون آمنا دائما, لأنه مهدد بمن يصبح أقوي منه. وهكذا نشأت الدولة, وقويت الروابط الاجتماعية, وظهرت القوانين التي عبرت عن هذا التطور الجوهري وحلت محل قانون الغاب.
البشر في الغاب قطيع كما قلت لا تجمع بينهم رابطة مشتركة, وإنما يفرقهم صراعهم علي تأمين حياتهم وتلبية حاجاتهم الضرورية. وقد اختلف هذا الوضع اختلافا جوهريا حين انخرطوا في مجتمع يشعر أفراده بتلك القرابة الحميمة التي نسميها الانتماء وتصبح بها الجماعة الإنسانية كيانا واحدا أو جسدا يتأثر كل عضو فيه بما يصيب غيره فيفرح لفرح الآخرين ويحزن لحزنهم, ويدرك عندئذ حاجته وحاجتهم لقانون يسوي بينهم جميعا علي اختلاف حظوظهم من القوة, ويضمن لهم حياتهم وأمنهم وحريتهم, لأن الأخطار التي تهدد الواحد منهم تهدد الجميع الذين يجب عليهم أن يسلموا بهذا المبدأ ويلتزموا به. وهذا هو العقد الاجتماعي الذي يبدأ من الاعتراف بحقوق يتساوي فيها الجميع وأولها الحرية.
الحرية أول حق للإنسان لأن الناس يولدون أحرارا, فالحرية ليست منحة من أحد, وليست صفة يكتسبها الإنسان من خارج نفسه, وإنما هي أصل فيه وجوهر لا يكون بدونه الإنسان إنسانا, وهي شرط أول للوجود الاجتماعي تتبعه بقية الشروط. فالبشر جميعا أحرار. وإذن فهم جميعا متساوون. وهم بهاتين الصفتين, الحرية والمساواة, قادرون علي أن يتفاهموا ويتفقوا ويلتئموا في جماعة واحدة, ويخضعوا لقانون واحد يسنونه لأنفسهم, ويتعاملون معه ويتعامل معهم كمواطنين لا يعرف أسماءهم, ولا يلتفت لما يتميز به مواطن عن مواطن في العرق أو الجنس أو الثروة أو الدين, وبهذا تتحقق العدالة للمواطنين جميعا, ولا ينال خضوعهم للقانون من حريتهم, بل يحفظها القانون عليهم, لأن القانون الذي تضعه الجماعة لنفسها يعبر عن إرادة الجماعة ويجعلها حارسة لحرية كل فرد من أفرادها, وبالتالي لبقية حقوقه.
من هنا يكون العدوان علي حرية التفكير والتعبير والعقيدة وغيرها من الحريات تحت أي شعار سياسي أو ديني جريمة لا تغتفر, لأن العدوان علي الحرية عدوان علي الوجود, وجود الفرد ووجود الجماعة. والحرية إذن حق مقدس لا يحده إلا الضمير, ولا يوقفه إلا القانون إذا تجاوزت حدودها وأصبحت عدوانا علي حرية الآخرين وعلي حقوقهم, سواء جاء هذا العدوان من فرد, أو حزب, أو سلطة. وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الديمقراطية, وضمنت به للمواطنين البسطاء حقوقا طالما ضنت بها الأقلية القادرة عليهم, واستأثرت بها وحدها, واعتبرتها امتيازا مقصورا عليها.
ومع أن المواطن البسيط هو العمود الفقري للديمقراطية, لأنه يمثل أكثرية الشعب الذي أخذت الديمقراطية اسمها من اسمه, فالمواطن البسيط لا يؤدي دائما ما عليه للديمقراطية, ولا يستجيب دائما لندائها, لأن حاجاته اليومية الضرورية تسبق حاجاته المعنوية والأخلاقية. ولأن الحاجات الأولي تتعارض أحيانا مع الحاجات الأخيرة. وهذا ما عرفناه في كثير من عصور تاريخنا ولمسناه بأنفسنا في ظل النظام البوليسي الذي تسلط علينا طوال العقود الستة الماضية.
لقد صودرت كل حرياتنا, وأصبحنا مخيرين بين أن نجد الطعام وأن نمارس حقنا في الكلام, بين الصمت في البيت والشارع, والصراخ في المعتقل, ونحن في ظل هذا الطغيان الدهري الذي رزحنا تحته في ماضينا وحاضرنا لم نمنع فقط من ممارسة حقنا في الحرية والديمقراطية, وإنما فقدنا قدرتنا الفطرية علي أن نكون أحرارا. لقد أصبحنا نخاف من الحرية ونصنع لأنفسنا طغاة نتنازل لهم عن كل حقوقنا راضين بأن يتركونا علي قيد الحياة.
الحرية مسئولية, لأن الذي يختار لنفسه لابد أن يتحمل نتيجة اختياره. وقد تعود الكثيرون علي أن يتعاملوا مع السلطة, كما يتعامل القطيع مع الراعي وكلبه وعصاه. يرضي بالقليل ويستسلم في المقابل له, ويمتثل لأوامره, لا يثور ولا يعترض, لأنه يخشي الذئاب أكثر مما يخشي الكلاب!
gt;gt;gt;
غير أن المعجزة تحققت, وثرنا من أجل الديمقراطية يتقدمنا شبابنا الذين لم يستطع الطغيان أن يروضهم كما روض آباءهم, أو ينسيهم حقهم ويستنفد حاجتهم للحرية. فما الذي سنصنعه بالحرية؟ مالذي سنصنعه بالديمقراطية؟ هل نحمل أمانتها ونتحمل تبعتها, أم نجتهد في صنع طاغية جديد نلقي في حجره بالثورة ومكاسبها ونلوذ بالفرار؟! هل آن لنا أن نبلغ سن الرشد, أم نظل طول العمر أطفالا؟ هل نعطي أصواتنا لمن يساعدوننا في انتزاع حقنا في الحرية وبناء حياتنا في هذا العالم الذي نعيش فيه, أم لمن يزعمون أن معهم مفاتيح الجنة والنار؟!