ممدوح طه


مر العام 2011 بأحداثه العربية التاريخية الفاصلة، والتي عايشناها جميعا بالأمل والألم وبدواعي الفرح والحزن معاً، ما دعانا للتساؤل والتفاؤل وللمساءلة والمساجلة معا.. مضى العام الثقيل بمشاهده المضيئة والمظلمة، ولملم أيامه وأوراقه ورحل، وجاء العام 2012 جديدا بمشاهده ووقائعه الدافعة إلى الفرح أحيانا والباعثة على القلق معاً، حين نطل في شهره الأول على بشائره وآماله، رغم كل دواعي القلق من مفاجآته وألغامه، داعين الله أن يكون أكثر أمناً وأكثر عدلاً وأكثر سلاماً على أمتنا العربية والإسلامية وعلى الناس أجمعين.

مع أوائل أيام هذا العام الجديد، بدا المشهد العربي حافلا بالضوء والظل والظلمة، لكن مساحات الضوء كانت الأكبر، وأهمها في العراق بالانسحاب الأميركي، فرارا من المستنقع الذي غرقت فيه بحصيلة خسائر بشرية قاربت الخمسة آلاف قتيل، والخمسين ألف مصاب أمريكي، ومليارات الدولارات خسائر اقتصادية..

وفي تونس بالاحتفال بالعيد الأول للثورة الشعبية بمجلس تأسيسي وورئاسة وحكومة مؤقته، وفي اليمن بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، إيذانا ببدء عملية انتقال السلطة وحماية البلاد من السقوط في تحقيق التغيير بالمواجهة الدموية، في إطار المبادرة الخليجية انتصارا لإرادة الثورة الشعبية السلمية..

وفي فلسطين تصادف الأول من يناير مع ذكرى انطلاق الثورة الفلسطينية بالمقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني، مع بداية كسر الحصار العربي على قطاع غزة المحاصر، واتفاق قيادة فتح في الضفة وقيادة حماس في غزة، برعاية مصرية، على مواصلة السير لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإتمام اتفاق المصالحة الوطنية، وذلك بعد تحرير مئات الأسرى المقاومين من السجون الصهيونية وسط احتفالات وأعراس شعبية.

وفي سوريا بإحباط المساعي الخبيثة لتدويل الأزمة السياسية، بالمبادرة العربية وبآلية المراقبة العربية، وصولا إلى حوار وطني لتحقيق مطالب الشعب السوري بطريقة سياسية آمنة بلا تدخلات دولية كارثية.. وفي مصر بدأ العام الجديد بالسير على طريق التحول الديمقراطي، بإنجاز أول انتخابات برلمانية نظيفة وحرة في التاريخ المصري، برعاية عسكرية وبمشاركة شعبية غير مسبوقة، مع الاستعداد للاحتفال بالذكرى الأولى لثورة يناير الشعبية المصرية، في الطريق لإعداد الدستور وإجراء الانتخابات الرئاسية، وانتقال السلطة للمؤسسات الديمقراطية المنتخبة.

ومع دقات أجراس الكنائس في قدس فلسطين وكل وطن عربي، كنا نردد مع شركائنا في الوطن والأمة quot;المجد لله في الأعالي وفي الناس المسرة وعلى الأرض السلامquot;، وشهدنا احتفالات عربية بالميلاد بمشاعر للإخاء الوطني غلابة، في مصر بالمشاركة الرسمية والشعبية غير المسبوقة وبحراسة المسلمين للكنائس.

وفي سوريا باحتفالات ميلادية متميزة تجلى فيها مشهد الوحدة الوطنية في الصلاة المشتركة بين المسلمين والمسيحيين في مكان واحد.. وفي العراق وفي لبنان وفي السودان وكل بلد عربي، تميزت احتفالات هذا العام برسالة واضحة لتأكيد معاني الوحدة الوطنية.

ولا غرابة في أن نحتفل كعرب وكمسلمين بميلاد السيد المسيح عليه السلام.. كعرب، لأن هذا الميلاد التاريخي حدث في مدينة عربية هي بيت لحم الفلسطينية، ولأن قضية فلسطين العربية منبع الرسالة المسيحية السماوية إلى العالمين، هي قضية القضايا للشعب العربي كله من خليجه إلى محيطه، وبمسيحييه ومسلميه، هذا العام وكل عام، حتى تتحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني الذي حتماً سيزول مثلما زال من قبل الاحتلال الصليبي..

ولأن فلسطين العربية المحتلة بكل ما فيها من مقدسات دينية، بقدسها الشريف والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وبمدينة الخليل والمسجد الإبراهيمي لأبي الأنبياء، وببيت لحم بكنيسة المهد التي تتجه إليها قلوب وأنظار كل أنصار الحق والعدل والحرية في العالم، وهي تقاوم المحتلين العدوانيين سلماً وسلاحاً، وتضيء الشموع في وجه ظلمة ليل الاحتلال الصهيوني الغاصب، الذي يمثل شاهد الزور على صحيح الرسالة اليهودية السماوية.

ونحتفل بهذا الميلاد كمسلمين، لأن فلسطين هي أرض الأنبياء المقدسة، ولأنه لا يكتمل إسلام المسلم ولا إيمان المؤمن إلا بالإيمان بالله الواحد وبملائكته وكتبه ورسله وأنبيائه جميعاً عليهم السلام، ولهذا نؤمن بالنبي موسى عليه السلام، الذي كانت مصر العربية هي مهد ميلاده، وسيناء المصرية هي منبع رسالته، ولا نؤمن بالصهاينة المستعمرين شهود الزور على صحيح رسالته السماوية.. laquo;بل نحن أولى بموسى منهمraquo; على حد قول نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام..

كما نؤمن بالنبي عيسى عليه السلام الذي كانت فلسطين العربية هي مهد ميلاده، ولا نؤمن بشهود الزور على صحيح رسالته السماوية من المستعمرين الصليبيين الأوروبيين، الذين تستروا بالمسيحية ورفعوا شــعار الصليب ليحتلوا بلاد العرب والمسلمين، بينما المســيح وديانته السمحاء منهم براء، ولأن الرسالات السماوية في الأصل مصدرها واحد وقيمها واحدة، فلقد جاءت الرسالة الإسلامية مصدقة لما قبلها وغير معادية لكل أهل الكتاب، بل داعية إلى laquo;كلمــة سواءraquo;.

وليــس هناك دين ســماوي يبيح العدوان ولا الظلم ولا الاستغلال، ولا طرد الشعوب من أوطانها واغتصاب أرضها وسفك دماء أبنائها. وتجري هذه الوقائع في الجانب المضيء من الصورة، بينما مساحة الظل والظلمة تشهد تحركات سياسية غريبة ومريبة، جلها غربي وبعضها عربي، ورسائل إعلامية غريبــة من بعض وسائل إعلامية مريبة، تسعى إلى ضرب الوحدة الوطنية بتلوين الخلافات السياسية بألوان فتنوية طائفية ومذهبية في أقطار الوطن العربي الواحد، الذي مزقته بالأمس خرائط المستعمرين القدامى في laquo;سايكس ـ بيكوraquo; الأولى، والذين يحاولون اليوم في سايكس ـ بيكو الثانية زرع الفتنة السياسية لتمزيق الوحدة الوطنية لكل بلد عربى يناهض مشاريع المستعمرين الجدد.

وحيث تسعى أدوات السياسة ووسائل الإعلام الصهيونية الأميركية، إلى فرض الوصاية الأجنبية تحت عناوين حقوقيــة إنسانية أو ثورية أو ديمقراطية، بإشعال الاقتتال الأهلى لرسم خــرائط جديدة عازلة بين قوى الوطن الواحد، يصبح المطلوب وعيا عربيا سياسيا رشيدا وإعلاما واعيا، يدير الحوار العام بين كل الآراء والتيارات الوطنية، بهدف التقريب والتوحيد والتعبير عن تطلعات الشعب العربي.

وما يبعث على الأمل مع بداية العام الميلادي الجديد، هوبشائر فشل مشروع الشرق الأوسط الصهيو أميركي الجديد، بانقلاب السحر على الساحر، وبوعي وحركة الجماهير الشعبية، إيذانا ببداية ميلاد الشرق العربي الإسلامي الجديد.