يوسف الدايني


في شتاء شاركت في ورشة بحثية عن مستقبل الحركات الإسلامية بدعوة من معهد كارنيجي للسلام، وكان من ضمن الحضور الشيخ علي سلمان الأمين العام لجمعية الوفاق البحرينية، ود.عمرو حمزاوي كبير الباحثين في المعهد آنذاك ود.عمرو الشوبكي الباحث في العلوم السياسية، وأبو العلا ماضي مؤسس حزب الوسط المصري، ود.سعد الدين العثماني وزيرة الخارجية وزير الخارجية المغربي في الحكومة الجديدة وآخرين من رموز الحركة الإسلامية في المنطقة.

كان علي سلمان صاحب الحضور الأبرز في المؤتمر بحكم حداثة التجربة السياسية للمشاركين الذين كانوا في أغلبهم في صفوف المعارضة أو منخرطين في العمل الأكاديمي ؛ بينما تجلت خبرة علي سلمان في عرضه لتجربة الوفاق البحرينية.. لم يكن يدور في خلد الحضور ولو على سبيل الخيال أن تؤول الأوضاع إلى ما آلت إليه الآن وأن ينتقل منظروا الحالة السياسية، من ضفة المعارضة، إلى منصة السلطة بشكل أو بآخر.

كان من اللافت جداً حديث علي سلمان عن الديمقراطية والتعددية السياسية وإيمانه بضرورة القفز على المخاوف الطائفية وبعث تطمينات حقيقية للسلطة في البحرين وأن ذلك لن يتم إلا بوضع برامج سياسية واضحة ومحددة تخرج من عباءة الطائفة إلى رحابة اللحمة الوطنية.

الآن وبعد خمس سنوات كنت أرقب فيها خطاب الوفاق البحرينية ممثلة في حوارات وتصريحات أمينها يمكن القول أن الحركة مرت بتحولات عميقة تبعاً لتحول الحالة السياسية في البحرين من شأن داخلي يخص البحرينيين إلى مسألة استقطاب للمشروع الإيراني في المنطقة رغم تذكري جيداً ذلك القلق الذي كان يبدو واضحاً على ملامح الشيخ الكارزمية وهو ينفي أن تكون التبعية المذهبية أو المرجعية الدينية يمكن أن يكون لها تأثير على الخيار السياسي ؛ وهو ذات الأمر الذي كان يشدد عليه المحاورون والناقدون لمشروع اندماج الحركة الإسلامية بشقيها السني والشيعي في العمل السياسي بنفس خطابها الدعوي وأدواتها التعبوية ذات المضامين الدينية وإن كانت في شكل شعارات دعائية بغرض تعبئة الجماهير التي لا تكترث كثيراً بالتفاصيل السياسي متى ما وضعت ثقتها في ممثلي خطاب الهوية.

الفصل ما بين الديني / الدعوي والسياسي ليس أزمة الوفاق أو الإخوان أو باقي تيارات الإسلام السياسي ؛ بل هو جزء من أزمة السلطة في العالم العربي حيث مارست الأنظمة العربية بنسب متفاوتة استخدام ذات التكتيك لمحاولة ضرب المعارضة أو خلق حالة من التوافق السياسي على رافعة دينية والتي كثيراً ما انتهت إلى أن عدم قدرتها على السيطرة على تبعات هذا الاستخدام كما في تجلى ذلك في تجربة ldquo;الساداتrdquo;، وذلك لأسباب معقدة ناتجة عن طبيعة عمل وتأثير الخطابات الثقافية عموماً والديني بشكل أخص في البنى الاجتماعية.

هذا الانفلات في ضبط التحدث باسم الدين في المجال العمومي والسياسي تحديداً ؛ يمثل أزمة في المدرسة السنية بشكل أكثر عمقاً من نظيرتها الشيعية أو حتى التيار المتصوف بسبب غياب الهرمية والتراتبية الدينية الملزمة في الخطاب السني بعد أن تراجع مفهوم التقليد والتمذهب والمرجعية الدينية لصالح ما ldquo; اللامذهبية rdquo; أو اتباع الدليل كما يعبر عنه في التداول الفقهي ؛ وهو بالمناسبة خيار عقلاني وإيجابي في فتح باب الاجتهاد والتجديد إلا أنه شديد الخطوة في فيما يخص القضايا العامة والكبرى ومنها المجال السياسي.

عوداً إلى تجربة الوفاق التي تحدث أمينها العام قبل أيام لصحيفة الوسط بحديث جريء حمل جوانب إيجابية لكنها لم تنعكس على موقف الحزب من الإصلاحات الأخيرة التي دعا إليها ملك البحرين والتي عبرت عن شجاعة كبيرة في المضي قدماً في احتواء الأزمة هناك وهو ما يعيد ذات الإشكالية في ارتباك الخطاب والممارسة في تعاطي الإسلاميين للسياسة، الشيخ علي سلمان قال بالحرف الواحد : ldquo;الخليج عربي، ومحوره المملكة العربية السعودية، وهي المركز، ونحن لا نسعى لإيقاف هذا المركز بل نسعى للتفاعل معه rdquo; وفي نفيه لأن تكون المعارضة وهو يتحدث عن الوفاق قد انحرفت عن الإصلاح السياسي إلى المنزلق الطائفي الوعر أكد أن المشروع السياسي : ldquo; لا علاقة له بالدين والطائفة، إذ إن مشروع المعارضة هو مشروع ليبرالي، وليس مشروعاً دينياً rdquo;، بل أكد رداً على مخاوف دول الجوار من المطالب التي تطرحها المعارضة البحرينية : أن ldquo; البحرين محيطها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، نريد أن نعيش في هذا المحيط، ونريد أن نظل جزءاً فاعلاً في مجلس التعاون الخليجيrdquo; وقال : ldquo; لا نسعى لإقامة دولة ولاية الفقيه في البحرين، ومن يسعى لتطبيق ولاية الفقيه لا يؤسس جمعية ويعمل على إصلاح النظام rdquo;، وفي ختام الحوار الطويل طالب الأمين العام لحزب الوفاق المعارض : ldquo; الجميع إلى مد اليد لصنع البحرين الجديدة، من أجل دفع عجلة التنمية، بصياغة ترضي الجميع، ليست بصياغة تظلم الشيعة أو تظلم السنة، وبغير الصيغة التي ترضي الجميع لن ندخل في أي مشروع سياسي، إذ إن المعارضة تريد لهذا البلد أن يستقر، وأن يحترم الجميع ولا ينتقص من أحد ذرة واحدة rdquo;.

أجزم أن كثيراً من المتابعين للشأن البحريني سيتفاجئون بحجم هذه التصريحات ؛ بل إن كثيراً من الخائضين في الشأن البحريني على شبكات التواصل، قد يشككون بمثل هذه التصريحات بناء على حجم التصعيد ومنسوب الطائفية الذي وصل إلى مرحلة غير مسبوقة، وجولة عابرة في محركات البحث أو الكلمات الدالّة في موقع تويتر يمكن أن تؤكد حجم الإشكالية في انفصال الخطاب السياسي بما يحمله من تحالفات وحوار وتجاذبات تفرضها الأحداث على الأرض ، وبين طريقة وعي الجماهير الذي عادة ما تكون حدّية وإطلاقية لا تعرف ألوان الطيف.

نظام الملكية البحرينية هي ليس قدر البحرين التاريخي فحسب ؛ بل هو ضمانة الوحدة الوطنية في ظل التجاذبات الطائفية والاستقطاب باتجاه التمدد الإيراني الذي يزداد أواره بشكل تصاعدي في حين أن حزمة الإصلاحات التي قامت بها السلطة بدءاً من إعادة تموضع قوات درع الجزيرة، واللجنة الحقوقية الدولية، والغاء المحاكم العسكرية، والافراج عن المسجونين والمحكومين على خلفية الاحداث، واعادة المفصولين الى وظائفهم والتعديلات الوزارية هي رسالة واضحة بأن ثمة وعي استباقي لدى السلطة بخطورة المرحلة، وهو ما أكده خطاب الملك في حديثه عن الديمقراطية وأنها ليست مجرد نصوص وأحكام دستورية وتشريعية، بل ثقافة وممارسة والتزام بحكم القانون يقترن بالعمل الوطني جاد والذي يعكس كل أطياف المجتمع البحريني دون إقصاء أو محاصصة.

هذه الرؤية تضع المعارضة أمام اختبار صعب لا يمكن اجتيازه إلا عبر الانفكاك من سلطة الشارع التي تحولت ليس في البحرين وحدها إلى سلطة موازية تقترب من حدود الفوضى بذرائع أخلاقية ومطالب إنسانية دون سقف سياسي محدد وواضح، وهو الأمر الذي أكده تقرير بسيوني الذي أنصف المعارضة بل وفي رأي كثيرين كان محابياً إلا أنه أكد في الوقت ذاته بأن ldquo;المعارضة خسرت هذه الفرصة التي كان يمكن أن تجلب إصلاحات للبلدraquo;.

الآن تجددت الفرصة في ظل أن كل المؤشرات المستقبلية تؤكد على كونها فرصة تاريخية ؛ فالنظام الإيراني الآن في أضعف حالاته، وحلفاؤه يعانون من ارتباك وتراجعات حادة بسبب تبعات الحالة السورية، والفرص الاقتصادية في البحرين في تصاعد حيث مؤشر التنمية يؤكد أنها البلد الأول عربياً في العام الماضي، وهناك حالة تململ حتى داخل أوساط المعارضة من الارتهان لخيار الممانعة.

السلطة في البحرين تنظر للإصلاح السياسي المتدرج على أنه مسألة بقاء وليس خيار وأنه الضمانة الوحيدة لبحرين موحّد، فهل تنظر المعارضة إلى الوحدة الوطنية كذلك ؟! هذا سؤال الأسئلة في البحرين اليوم.