عبدالحميد الأنصاري

استقبل العديد من الكتّاب نبأ تعيين الدكتور عبدالعزيز آل الشيخ رئيساً عاماً لهيئة الأمر بالمعروف بالسعودية بكثير من التفاؤل، فآل الشيخ معروف بآرائه المعتدلة في قضايا اجتماعية ودينية يشهدها المجتمع السعودي، وتحدث حراكاً ثقافياً صحياً مبشراً بمزيد من الإصلاحات الدينية والاجتماعية.
تعيين آل الشيخ في هذا المنصب المفصلي يعين على هذه الإصلاحات، ويرد الاعتبار لسمعة ldquo;هيئة الأمر بالمعروفrdquo;، ويصحح مسارها وخللها بعد أن تعرضت لكثير من الانتقادات في الآونة الأخيرة لاسيما في تدخلها في حريات الإنسان؛ مما أثار استياءً عاماً لدى المثقفين والجماهير العريضة في السعودية، لذلك يأمل الكثيرون أن تشهد الهيئة فجراً جديداً من التعامل الإنساني الراقي مع المجتمع يمكنها من تحقيق أهدافها بشكل حضاري ينسجم مع التغيرات المتسارعة في المنطقة، وهي تغيرات تعبر عن تطلعات مجتمعاتنا إلى غد أفضل بعد تدهور في الأوضاع وقمع للحريات وفساد عريض طال القطاعات كافة.
إن ldquo;الأمر بالمعروف والنهي عن المنكرrdquo; قاعدة جليلة في ديننا مصداقاً للآية ldquo;وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَrdquo;، وما استحقت أمتنا الخيرية إلا بقيامها بهذه الفريضة على الوجه الإيجابي المحقق لأهداف حماية المجتمع تجاه أمراض الفساد والتطرف والاستبداد، ومن أظهر سمات المجتمع الإسلامي المزدهر أن أفراده ينصرون الحق ويتعاونون على تنمية المجتمع ويقاومون الظلم ويتصدون للتجاوزات ولا يسكتون على انحراف أو تجاوز لقوله صلى الله عليه وسلم ldquo;والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكمrdquo;.
وقد قال الإمام محمد عبده قبل قرن: لا معروف أعرف من العدل ولا منكر أنكر من الظلم، وتعيين آل الشيخ يبشر بآمال عريضة خصوصاً في قضايا المرأة، فهو من المؤيدين للاختلاط البريء أو الآمن، وسبق أن دعم موقف الشيخ أحمد الغامدي رئيس الهيئة السابق بمكة المكرمة حول جواز الاختلاط بضوابطه المشروعة.
ويرى آل الشيخ أن هناك فرقاً بين الاختلاط المحرم والاختلاط المباح، وأن الحكم بتحريم الاختلاط مطلقاً لم تأتِ به الشريعة، بل أجازته في حدود تكفل الحرية للإنسان ذكراً أو أنثى، الحرية المنضبطة بالضوابط الشرعية المحافظة على الأعراض والمانعة من الوقوع في المحظورات، وأن العلماء حينما حرّموا الاختلاط فإنهم قصدوا الاختلاط المطلق عن القيود وهو الاختلاط المستهتر، ويدعم موقفه بقوله: ldquo;لا يخفى على أحد حال الناس وما يمارس في الواقع من اختلاط في الأسواق والأماكن العامة ودور العبادة كالحرم المكي والمدني، وما يحصل في موسم الحج، وفي مجالس القضاء وغير ذلك من التجمعات البشرية، فهذا الاختلاط الذي فرضته الحاجة والضرورة ليس وليد اليوم، إذ كان موجوداً منذ أزمنة قديمة بل حتى في صدر الإسلامrdquo;.
والحق أنما ذهب إليه آل الشيخ هو المذهب المنصور قرآناً وسنةً، إذ لا يتصور من دين سمته الخلود وقد جاء هداية للمجتمعات البشرية كافة أن يفرض حاجزاً حديدياً بين الجنسين، لا تستقيم الحياة بذلك ولا تعمر الأرض ولا يتقدم المجتمع، وهناك مصالح واحتياجات للبشر تلزم دائماً قدراً من الاختلاط لتحقيقها، ومنعه يؤدي إلى تعطيل هذه المصالح، ولا يمكن لمجتمع بشري أن ينهض على أكتاف النصف الآخر المحجوب عن المجتمع، كما لا يمكن أن يسير على ساق واحدة، ولا بد من تضافر جهود الجنسين وتعاونهما معاً في بناء المجتمع وتنميته، هذه حقيقة لا يمكن التشكيك فيها، وهي من مسلمات أدبيات التنمية والتقدم.
لقد كان جميلاً من آل الشيخ أن يستهل عمله بقوله: ldquo;إن منهج العمل في جهاز الهيئات سيرتكز على الأمر بالمعروف بمعروف، والنهي عن المنكر بلا منكرrdquo;، هذا دستور حاكم لما ينبغي أن يكون عليه عمل القائمين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولو تمكن آل الشيخ من ترجمة هذا الدستور على أرض الواقع عبر أعمال وإجراءات وأساليب مغايرة لما كان عليه عمل الهيئة في السابق، فإن في ذلك إصلاحاً كثيراً.
إن التغيير والتطوير سنّة الحياة المتجددة، ولذلك يأمل الكثيرون أن تشهد الهيئة تطويراً في نظامها، وتجديداً في أساليبها وفي شخصيات القائمين عليها، وبما يتوافق مع واقع المجتمع السعودي والتطور الذي تشهده المملكة في عهد القيادة الإصلاحية، كثيرون يبدون مخاوف من العراقيل التي قد يضعها الحرس القديم أمام التوجهات الإصلاحية للرئيس الجديد، وأتصور أن هذه التخوفات ليست في محلها فالقيادة السياسية قد حسمت الخيار الإصلاحي ولا عودة للوراء، وآل الشيخ بإذن الله مؤهل لتحقيق هذا الخيار، وما جاء هذا الاختيار الموفق إلا مؤشراً بارزاً على هذا التوجه الحاسم، لقد آن أوان تحديث نظام الهيئة وتطوير مفاهيم الأمر بالمعروف بما يتفق ومقاصد الشريعة العليا وتتطلبه مقتضيات العصر وروحه ويفرضها احتياجات المجتمع وأهداف الدولة في استثمار طاقات الجنسين، ودعم الاستقرار، إذ ليس من المصلحة العليا لأي مجتمع وجود جهاز رسمي يشكل عامل تأزيم وتوتر في المجتمع، ويدفع أفراده لكراهية النظام والتمرد عليه، لا أحد ينازع في حراسة الدين وحماية الفضائل والقيم كأهداف عليا للمجتمع، لكن من حق الناس أن ينازعوا في الوسائل والأساليب والطرق المتبعة لتحقيق هذه الأهداف.
تشير الاستطلاعات كافة إلى أن ممارسات هيئات الأمر بالمعروف الرسمية والتطوعية سواء في المملكة وغيرها، قد تحولت إلى ldquo;شرطة دينيةrdquo; تطارد الناس بعصا السلطة، وتراقب سلوكياتهم وتتجسس عليهم وتحصي عليهم عثراتهم، وتشكل كابوساً خانقاً على صدورهم، وهي بذلك تشوّه المبادئ السامية لديننا العظيم وتنفّر الناس من الهيئة ورجالها خصوصاً على مستوى الشباب، والقهر قد يلد تمرداً ضد النظام السياسي والمجتمع، ليس من عمل الهيئة فرض وصايا دينية وأخلاقية على المجتمع، كيف والقرآن الكريم يخاطب الرسول الكريم بأنه مُذَكِّر ومُبلِّغ للناس وليس عليه هداهم وما هو بوكيل عليهم!
لا جدال في حماية الأخلاق وحراسة الفضائل لكن لها طرقها المشروعة المتناسبة مع هذا العصر، والتي لا تهدد أمن المجتمع واستقراره، ولا تزرع الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد، ولا تبث الذعر والخوف والقلق في نفوس الشباب، ولا تؤثر سلباً في عمليات التنمية، ولا ترسم صورة سلبية للدولة أمام أنظار العالم.
إن على الهيئة اليوم أن تتجاوز الفرعيات الخلافية ولا تنشغل بها كالنقاب واللحية وتقصير الثياب والأغاني والتصوير والاختلاط ومطاردة الرجال والنساء بحجة الخلوة، فهذه أمور خلافية لا إنكار أو احتساب فيها طبقاً للقاعدة الفقهية المستقرة ldquo;لا إنكار في مسائل الاجتهاد الخلافيةrdquo;، يجب أن يقتصر عمل الهيئة على منع التعديات والتجاوزات للثوابت الدينية المستقرة ولا يتعداها إلى الفروع الفقهية وإلا تحولت إلى وسيلة إيذاء للناس، وتجاوز على الحريات، وهذا أمر غير مقبول اليوم على المستوى الشعبي المحلي وعلى المستوى العربي والدولي، وليس من حق الهيئة أن تقوم باعتراض رجل وامرأة يمشيان في الطريق بحجة أنها أجنبية عنه، فالسير في الطريق ليس تهمه ولا مظنة ارتياب وهما ليسا في موضع ريبة ولا يجوز سوء الظن في الناس مسبقاً، ولا يكلف الرجل بإثبات علاقته بالمرأة، وانغماس الهيئة في مثل هذه الممارسات الخاطئة يجلب عليها مفاسد كثيرة، على الهيئات القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراعاة الضوابط الشرعية في أعمالها حتى لا تفسد فريضة الاحتساب وتفرغها من مضامينها الحيوية المطلوبة.