أحمد عبد المعطي حجازي

في اعتقادي أننا أهملنا طويلا هذا الخطر الماحق الذي نسميه الفتنة الطائفية ونراه يهدد كياننا الوطني كل يومrlm;

, ونظل علي جهلنا به أو تجاهلنا له نهون من شأنه, ونتحاشي النظر فيه, ونطلق عليه أسماء كاذبة تزيف حقيقته وتتستر علي أسبابه التي تظل تلد من هذه الفتنة صورا وأشكالا مخيفة تختفي في بعض الأحيان حين لاتجد المناخ مشجعا.
لكنها تبقي كامنة متربصة تتحين الفرصة لتروعنا من جديد! ونحن نعرف أن هذه الفتنة الطائفية بدأت في موجتها الأخيرة منذ أربعين عاما بالضبط حين قام البعض عام2791 مدفوعين من أنفسهم ومن غيرهم بإشعال النار في دار الكتاب المقدس بالخانكة, ثم لم تهدأ حتي الآن, ولم تنم,ولم ينج منها مكان في مصر. فإذا كان هناك من يظن أنها طارئة فهو مضلل أو مضلل يسمي الأشياء بغير أسمائها, ويرد مايحدث للشرارات التي انطلقت, ويتجاهل أصلها المضطرم المستور. شاب مسيحي يتهم بالتعرض لفتاة مسلمة, أو كواء مسيحي تلسع مكواته قميص زبون مسلم.. كأن هذه الحوادث اليومية التافهة كافية لإشعال نار هذه الحرب التي نتعامل معها ببرود شديدغير مفهوم.
حين نسمي هذا الذي يحدث فتنة طائفية نفهم من هذه التسمية أن الوحدة الوطنية وضع مستقر قائم تأتي بعض الحوادث لتهزه من السطح ثم تمضي ليعود هادئا كما كان. وهذا إنكار للواقع وتزييف للتاريخ. فالوحدة الوطنية شعار لم يرتفع إلا في النصف الأول من القرن العشرين لينضوي تحته المصريون حين هبوا علي اختلاف طبقاتهم وطوائفهم يطلبون الاستقلال لبلادهم من المحتلين الإنجليز الذين كانوا يبررون وجودهم في مصر بحماية الأقليات الدينية, ومن الأتراك العثمانيين الذين كانوا يفرضون سيادتهم علي مصر باسم الإسلام. وحتي لاتنقسم مصر بين من يؤيدون الأتراك من المسلمين ومن يؤيدون الإنجليز من المسيحيين قامت الحركة الوطنية تطلب الاستقلال لمصر وتحررها من الأتراك والإنجليز معا, وترفع شعارها الدين لله والوطن للجميع وتضع الدستور الذي فصل بين الدين والدولة ونظر للمصريين باعتبارهم جماعة وطنية واحدة لاطوائف دينية مختلفة, مما ساعد علي ظهور وعي وطني جديد عبرت عنه الثقافة المصرية الحديثة والدولة الوطنية والنظام الديمقراطي وحكم الدستور الذي تنكرنا له في خمسينيات القرن الماضي وسرنا في طريق الندامة ستة عقود فقدنا فيها كل ماحققناه في نهضتنا الحديثة, واهتز خلالها شعورنا بالانتماء, وخلطنا بين العروبة الثقافية وهي حقيقة حية والعروبة السياسية وهي شعار خطابي لايقوم علي واقع. وبعد أن حولنا العروبة الثقافية إلي عروبة سياسية وهمية حولنا هذه العروبة السياسية الوهمية إلي إسلام سياسي يسعي أصحابه لتحويل مصر إلي ولاية في خلافة وهمية يريدون إقامتها من جديد. في هذا المناخ الأفغاني فقدنا شعورنا بالانتماء لمصر, وبوحدتنا الوطنية التي لم نعرفها إلا في هذا العصر الحديث, لأن الوحدة الوطنية ثقافة جديدة قبل أن تكون شيئا آخر.


ونحن نعرف أن المصريين من أكثر شعوب الأرض تجانسا وتواصلا, لأنهم شعب قديم عرف الاستقرار منذ آلاف السنين في أرض خصبة معتدلة المناخ مكتفية بنفسها معزولة إلي حد كبير عما حولها بالصحاري المحيطة بها. وقد اختلطت في هذه الأرض دماء ساكنيها وامتزجت وتفاعلت فكان هذا الشعب العريق المتحضر الذي ظل محافظا علي أصوله منذ بداية تاريخه حتي اليوم.
غير أن وحدة الدم شئ والوحدة الوطنية شيء آخر. والذين يتجاهلون الفتنة الطائفية ويهونون من شأنها اعتمادا علي وحدة الدم يعرضوننا لأخطار ماحقة تتجاوز ما نراه الآن من صور هذه الفتنة الي تعريض الكيان المصري كله للانهيار. لأنهم يتجاهلون أن الوحدة الوطنية ثقافة لم نعرفها كما قلت إلا في هذا العصر الذي عرفنا فيه معني الوطن, والاستقلال الوطني, والمواطنة, والديموقراطية, وحقوق الإنسان. فاذا غابت هذه الثقافة اشتعلت الفتنة بين المسلمين والمسيحيين, وإذا اشتعلت الفتنة انهار الكيان الوطني كله كما انهار في السودان فلم يخرج من تحت أنقاضه مسلم أو مسيحي!


أريد أن أقول إن الانقسام الطائفي, لا الوحدة الوطنية هو الوضع الذي ورثناه من تاريخنا منذ دخلت المسيحية مصر في القرن الأول الميلادي. في ذلك الوقت كنا قد فقدنا استقلالنا منذ أربعة قرون, ولم تعد لنا دولة تحمي كياننا, وخضعنا لموجات من الغزاة الأجانب الذين كانوا يسعون لتأمين وجودهم في مصر بفرض عقائدهم ومذاهبهم علي المصريين واضطهاد من يبقي منهم علي دينه وحرمانه من حقوقه. وهكذا أصبح الانقسام أو الفتنة الطائفية في مصر وضعا ملائما للحكام الأجانب وللطغاة المحليين وخدمهم المتاجرين بالدين.
في القرن الأول الميلادي دخلت المسيحية مصر فانقسم المصريون قسمين! الذين اعتنقوا الدين الجديد من ناحية, والذين ظلوا علي دين آبائهم وأجدادهم من ناحية أخري. حتي إذا صار الجميع مسيحيين في القرن الرابع الميلادي انقسموا مرة أخري إلي أغلبية تلتف حول الكنيسة القبطية المستقلة, وأقلية تتبع كنيسة الروم البيزنطيين وأخيرا دخل الإسلام مصر لينتشر شيئا فشيئا ويصير دين الأغلبية بعد نحو أربعة قرون ويتحول المسيحيون إلي أقلية مضطهدة حتي استطعنا أن نبدأ نهضتنا الحديثة ونستعيد استقلالنا الوطني ونعرف معني المواطنة والوحدة الوطنية, ثم ننكص علي أعقابنا في العقود الستة الماضية, ونعود إلي الانقسام والتمييز علي أساس الدين, ونغير أسماءنا وأزياءنا وصورنا ونتبرأ من ثقافتنا الحديثة وتاريخنا القديم, فلايبقي أمامنا إلا العودة للعصور الوسطي بمجتمعاتها العبودية, ونظمها الاستبدادية, وحروبها الدينية.