ناصر عبد الرحمن الفرا

منذ فترة والكل يسمع ويقرأ تسريبات ومقتطفات إعلامية توحي بأن خالد مشعل، الرجل البالغ من العمر 56 عاماً، سوف يترك قيادة حركة المقاومة الإسلامية، حماس، الذي كان قد وصل إليها عام 2006، بعد اغتيال أهم مؤسسيها، المرحوم أحمد ياسين، سنة 2004. قبل ذلك ورغم مشاركته في إنشاء الحركة عام 1987 وقيادة جناحها السياسي سنة 1996، عامة الناس كانت تجهل أسمه ومكانته داخل هياكل هذا التنظيم، هذا ما يعطي بالانطباع أن 'الشاب خالد' أنتظم وتدرج خلال فترة إقامته بين الكويت والأردن بنوع من السرية وظهر بشكل قوي وفعلي من خلف الكواليس ليتبوأ مركز الصدارة. الجميع يجهل نوعية العملية الانتخابية التي أوصلته للمنصب الأعلى، وهل تم ذلك بالتذكية، أم من خلال تطبيق مبدأ 'وأمرهم شورى بينهم' أو من خلال البيعة.
منذ البداية وهذا التنظيم، بكافة نشاطاته السياسية والعسكرية، كان تحت مراقبة الصديق قبل العدو. هذا الوضع فرض أن تحاط عملية اختيار 'الزعيم' بنوع من السرية التامة. القبول من قبل كافة شرائح الحركة بالقائد الجديد وعدم حدوث أي انقسام داخلي لاحق يدل بأن العملية تمت بشكل سلس، وأن التوافق رافقها منذ البداية وحتى النهاية. مؤشرات واضحة المعالم، مثل حداثة أفكاره، البلاغة الخطابية، الجاذبية والرزانة، الاعتدال الديني، المواقف السياسية الثابتة، المؤهلات القيادية والفاعلية التنظيمية جعلته يستحق وبجدارة تبوؤ هذا المنصب. مع ذلك، شهرته الواسعة جاءت بعد محاولة اغتياله الغاشمة من قبل الموساد الإسرائيلي، من خلال حقن جرعة من السم في أذنه كادت ان تودي بحياته في مدينة عمان عام 1997.
لو نجحت إسرائيل في هدفها الارهابي لكانت، كما هي عادتها، قد حيدت واحدا من أهم الشخصيات الوطنية الواعدة. من المؤكد أنها قد قامت بهذه المحاولة بعد إجراء تحليل معمق حول قدراته، رافقها استشراق لمستقبله في الحركة وفي مسيرة النضال الفلسطيني. نتائج هذا التحليل فرض على إسرائيل ضرورة حسم أمر اغتياله بأسرع وقت ممكن. هذه المحاولة أن دلت فتدل على أن اختيار حماس لخالد مشعل كان صائبا بنفس الدرجة التي كانت محاولة التخلص منه خسيئة وبائسة. مبدئياً، هذا الاختيار أعطى صورة عصرية للحركة تختلف عن تلك التي كانت متداولة حتى ذلك الحين وتوج نهائياً بصعودها التدريجي.
منذ اللحظة الأولى، قوة شخصيته وتماسك فحوى خطابه السياسي والديني، الذي لا يضاهيه داخل حركة حماس في ذلك سوى اسماعيل هنية، لفت انتباه الجميع، كانوا أم لم يكونوا تابعين للتنظيم الإسلامي. رغم كل الصعوبات التي واجهته، فقد استطاع 'أبو الوليد' الاحتفاظ بمجمل سماته. بنوع من الأناقة السياسية تمكن كذلك من تقوية موقف حماس على الساحة العربية والإسلامية كحركة موازية، بل واحياناً متجاوزة باقي الحركات القائمة. الحيوية والروح الشبابية النشطة التي تميز بها لعبت دوراً حاسماً في قبول التعامل مع حماس بشكل سري أو علني. رغم الضغوطات الدولية، هذا القبول كان طبيعياً، فالكل ينظر بأعجاب ويتقرب بتفاؤل لكل من يرمز للمستقبل ويعمل في شبابه بتواضع. لو قدر لخالد مشعل ولحركته امتلاك طاقم علاقات عامة علني، فعال ومتنوع لتجاوز بخطابه المتوازن آفاقا أوسع من تلك التي تعدها محلياً.
مع ذلك، لسنا هنا بصدد ذكر إجمالي الإنجازات والإخفاقات التي جناها هذا الرجل خلال قيادته لحركة حماس، فقد كتب الكثير سلباً وإيجاباً في هذا الأمر. بشكل عام ما تم ذكره تمحور حول فاعلية إدارته للعلاقات الخارجية وعدم تمكنه من حسم البند المتعلق بالانقسام الداخلي. هذا الجرح مازال مفتوحاً. هنالك من يحمله نوع من المسؤولية، مثل ما يحمل غيره من باقي القوى المتورطة بشكل مباشر أو غير مباشر، لعدم تمكنهم من إغلاق نزيف الجرح.
بعد فقط 6 سنوات من زعامة الحركة، و10 سنوات من قيادة جناحها السياسي، القرار المرتقب وغير المعلن بعد رسمياً من قبل خالد مشعل بالتخلي عن منصبة أمر في غاية الأهمية، مميز، مفيد وجدير بالتقدير. لا يعرف متى وهل سوف يتم ذلك فعلاً وعن قريب، وهل القرار حركي ملزم أو شخصي لا رجعة عنه. حال ثبت ذلك، فسيعتبر قرار الاعتزال في حد ذاته حكيما ومُشرفا لصاحبه، لما سيكون له في المستقبل من نتائج إيجابية على الحياة السياسية الفلسطينية، خاصة في هذه اللحظة من التحول والتجديد العربي. بهذا القرار يكون خالد مشعل السباق في الساحة الوطنية عامة وامام أعين كل من ضجر من تشبث الكثير من القيادات الحاكمة بالسلطة، رغم فشلها الذريع.
منذ زمن وكل فلسطيني يستجدي البدء بعملية تجديد تشمل الكثير من القيادات القائمة. إن بادرت قيادة حماس بهذا العمل، تكون حصرياً قد بدأت تتجاوز فكرة أزلية القائد الذي لا غنى عنه والمعششة في عقول الناس، واقتنعت بأن تبديل القيادات أمر مناسب، واجب وذو منفعة. إن سنت هذه السنة الحسنة فسوف تلفت حتى انتباه العدو الفاطن لسذاجة لعبة التلميح بالتخلي عن القيادة يوماً والتراجع عن ذلك في اليوم التالي.
في معظم المناسبات كثير من الفلسطينيين يتباهون بانتمائهم لشعب يؤمن بممارسة العمل الديمقراطي. قائد في ريعان عمره مثل خالد مشعل عليه أن يثبت ذلك فعلاً لا قولاً، وجدير به أن ينزل هذه الفكرة من عالم الخيال إلى عالم الواقع. بقراره المرتقب بالتخلي عن مركز الزعامة، من الممكن أن تخسر حركة حماس تواجد شخصية مرموقة في صفها الأول، لكن ما سوف يجنيه الجميع هو ترسيخ شخصية وطنية لم تغرها أبهات الحكم بالبقاء الدائم. مثل هذا النوع من الناس ما زال مفتقدا في الذاكرة السياسية الفلسطينية. إن تم تنفيذ هذا القرار، فسيجعل خالد مشعل من نفسه نموذجا جديرا بالتقدير وقدوة حسنة لغيره ولمن حوله.
لا أحد يعرف المهنة التي سوف يزاولها السيد الفاضل بعد تخليه عن إدارة الجناح السياسي للحركة، وهل سيعود للصفوف الخلفية أم لا، كما كان سابقاً، أم سوف يكرس وقته للمشاركة في الندوات التي تعقد لدراسة التجربة الإسلامية من القمة، مثل ما فعل قريباً في العاصمة القطرية. ما لا اختلاف فيه هو ان التدريس بشكل عام، بما فيها مادة الفيزياء، المتخرج فيها أبو الوليد بامتياز، ذات أفاق مفتوحة وهي من أنبل المهن. العودة إليها لن يبعد صاحبها شبراً عن وطنه، تنظيمه، قضيته وشعبة. بالتوفيق.