بشير عيسى


وكأن الشعب السوري لا يكفيه ما فيه، حتى يخرج عليه السيد أردوغان، مهدداً ومتوعداً بالحرب على دولته، دفاعاً عما يسميه السيادة التركية! والذي بات استحضارها حاجة ماسة، تعكس رغبة وإصرار حكومة العدالة والتنمية، في إزاحة نظام الأسد، والوصول بالإخوان إلى السلطة، كمقدمة لإضعاف الدور الإيراني في المنطقة، والحلول مكانه، بتشجيع من الولايات المتحدة. إلا أن بقاء laquo;النظامraquo; المدعوم والمحمي دولياً من روسيا والصين، أربك السياسية التركية، المعولة على قرار أممي يجيز التدخل الدولي، كما حدث في ليبيا.

من هنا كان البحث عن الذرائع ضرورة مطلبية، لإحراج الروس والدفع باتجاه تغيير موقفهم السياسي. فكانت زيارة أردوغان لروسيا والصين، تهدف إلى طمأنة وتشجيع كلا البلدين، من خلال زيادة الاستثمارات والتبادل التجاري، مع التأكيد على ضمان مصالح هاتين الدولتين، في حال رحيل الأسد. ضمن هذا السياق، أتت حادثة سقوط المقاتلة التركية، في المياه الإقليمية السورية، والتي حاولت أنقرة استثمارها إلى أبعد الحدود، من خلال دعوة الناتو ومجلس الأمن، لكن هذه المحاولة التي تم فبركتها، تدركها كل الأطراف الدولية ذات الشأن، بدليل أن حكومة العدالة، قد قبلت بمحاضر التسليم من الجانب السوري، كما صرح بذلك الناطق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي، في مؤتمره الصحافي. ناهيك عن عدم دعوة أنقرة لمحققين أمميين، بغية تحديد مكان سقوط الطائرة، وإن كانت قد خرقت الأجواء السورية أم لا؟. في الحقيقة كان المطلوب جر الناتو تحت البند الرابع، لشن حرب تفضي إلى إقامة منطقة عازلة، ولأن الحجة ركيكة، كان ارتدادها سيئاً على الحكومة التركية، حيث دفعت رئيس ديبلوماسيتها إلى التنصل، بالقول إن الحكومة السورية قدمت اعتذاراً، تبين فيما بعد كذب هذا الادعاء، وهو ما زاد في إحراج وتخبط الديبلوماسية التركية.

لقد تبدى للأتراك بأنهم تُركوا وحيدين في المستنقع السوري، وهو ما بدا جلياً في تصريحات أردوغان الحانقة، ضد روسيا والصين وإيران، وتحميلهم مسؤولية ما يجري في سورية، قائلاً: laquo;التاريخ لن يغفر للذين وقفوا إلى جانب الأنظمة الديكتاتوريةraquo;. لقد كانت الخيبة واضحة، وهو يتحدث بصوت عالٍ أمام محازبيه وضيوفه، في المؤتمر الرابع والطارئ لحزبه، مؤتمر عكس الامتداد الإخواني للحزب، وهو ما دل عليه اللون الطاغي للضيوف، إذ كان أبرز الحاضرين الرئيس محمد مرسي وراشد الغنوشي، فيما تخلف الرئيس المنصف المرزوقي، كذلك غاب الرئيس عباس مقابل حضور خالد مشعل، أما عن العراق، فكان لافتاً حضور طارق الهاشمي ومعه رئيس البرلمان أسامة النجيفي، إضافة لرئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، مقابل غياب لافت لرئيس الحكومة العراقية السيد نوري المالكي!.

ولنا أن نلحظ من الشخصيات التي فضلت عدم الحضور، التوجه السياسي الممذهب لحكومة العدالة والتنمية. ففي معرض تحياته المدروسة والملغومة، توجه أردوغان إلى laquo;أبطال سوريةraquo; بالقول: laquo;أتوجه بالتحية والتقدير لأبطال سورية الذين يناضلون من أجل الحرية والكرامة، أحيي من هنا أربيل والسليمانية ودهوك وبغداد والقاهرة والقدس ودول آسيا وأفريقيا والعالم جميعاًraquo;. إذ من خلال تسلسل هذه التحيات، يمكن أن نرى الأوليات الملّحة للحزب في سياسته الخارجية، حيث بات نجاح هذه السياسة مرتبطاً بمدى قدرة laquo;أبطال سوريةraquo; على إسقاط نظام الأسد، نظام يشكل بقاؤه - بعد إحراق طرق العودة معه- انكساراً مدوياً، قد يطيح بآمال أردوغان الانتخابية وأهدافه التوسعية.

وهنا يأتي العراق كبوابة ثانية تبدأ بإقليم كردستان، وهو ما تفسره التحيات الموجهة لأربيل والسليمانية ودهوك، فمن الشمال إلى الوسط، حيث تحضر بغداد برمزيتها التاريخية والدينية، تغيب المدن الجنوبية كالنجف وكربلاء والبصرة عن التحية، ولو كان الأمر بعيداً عن المذهبية والمصالح، لحييا هذه المدن أسوة بزميلاتها في الشمال، ولأثنى على حراك البحرين من حيث المبدأ! ولكن حقيقة الأمر لا تعدو كونها دفاعاً عن المصالح الحيوية للعثمانية الجديدة، حيث توجد لتركيا قواعد عسكرية منذ 1995، بموجب اتفاقية وقعها نظام صدام حسين مع أنقرة، والتي تنص على ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني الانفصالي، داخل الأراضي العراقية في إقليم كردستان. لذلك فتركيا حريصة على إقامة أفضل العلاقات مع الإقليم من جهة، ومن جهة أخرى للضغط على المالكي، القريب من إيران، وهو ما يفسر استضافة طارق الهاشمي على أراضيها، ودعوته لحضور مؤتمر الحزب. هذا الاستفزاز التركي، كان قد سبقته زيارة لوزير الخارجية السيد أوغلو إلى كركوك، من دون إعلام حكومة بغداد، ما دفع هذه الأخيرة إلى الاحتجاج، ومن ثم دعوة البرلمان، من أجل إلغاء أو عدم تمديد أي اتفاقية، تسمح بوجود قواعد أجنبية على الأراضي العراقية، في إشارة إلى القواعد التركية، الأمر الذي قد يزيد من حدة التناقضات والخلافات بين المكونات السياسية العراقية وبين بغداد وأنقرة. وهو ما دفع بالمالكي للانفتاح أكثر على دمشق ومن ثم موسكو.

أمام هذا الواقع المعقد والمركب بكل مفاعيله، والذي بات يطاول الداخل التركي، ويهدد بفرط تنوعه الثقافي، فإن حكومة العدالة والتنمية تقف على عتبة خيارين، إما انسحاب ملؤه الخيبة، ما يعني انتصار الأسد على أردوغان، أو الذهاب إلى الحرب بذريعة انتهاك السيادة، وهو ما يبدو متعذراً، وذلك بعد أن أدركت أنقرة، أن قرار الباب العالي لم يعد في الآستانة، وإنما في موسكو وواشنطن، وما بين الخيارين، يفضل أردوغان اللعب على حافة الهاوية، من خلال خلق منطقة شبه عازلة، كأمر واقع، فرضته الخروقات الأمنية- المدروسة- على الحدود، وهو ما تعمل أنقرة على استثماره، بانتظار ما ستحمله الأيام من متغيرات!.