يحيى الأمير
هذه الأيام تتوشح السعودية باللون الأبيض إحراما وقيما واجتماعا، يهيمن اللون الأبيض على كل البلاد نورا وخدمة واستئناسا بهذا المشهد السنوي الذي يحمل كل معاني الاجتماع لأبناء الإسلام ديانة واتحادا.
الحج يختصر كثيرا من المعاني التي يحتاج إليها الواقع المعاصر، ففي الحج تبرز الهوية الكبرى التي تتآلف مع الهويات الصغرى لتنتج هذا المشهد المهيب، الهوية الكبرى المتمثلة في الإسلام دينا وقيما وحضارة، والهويات الصغرى للأوطان والألون والألسنة. في الحج تتحد الجغرافيا على مركز واحد يصبح هو وجهتها ومقصدها، وتقدم الثقافات أكبر أدلتها على أنها قادرة على التعايش والانسجام.
في الحج تعريف جديد للوحدة الإسلامية، فهي تلك التي تستوعب أن الاتحاد ليس في الجغرافيا ولا في العواصم، وأن واقع التركيبة المعاصرة للدولة المعاصرة التي تمثلها دول العالم الإسلامي يجعل من فكرة الاتحاد بالمعنى الجغرافي والسياسي عبارة عن فكرة معقدة وغير عملية وتكاد تقترب من المثالية المفرطة، بل إن الزمن والواقع أثبت أنها ليست هي القضية أصلا، لكن القضية الحقيقية تكمن في نموذج الوحدة التي يمثلها الحج، إنها وحدة القيم والروح ووحدة الصف والتطلع، إنها الوحدة الروحانية التي تجعل من الأخوة قيمة وليست مجرد شعار.
هذه الرمزية تنطلق فقط من مكة المكرمة وتعود إليها، تنطلق منها إلى العالم الإسلامي أولا ثم إلى المسلمين في كل أنحاء العالم، لتؤكد واقعا عالميا للوحدة يتخطى حدود الجغرافيا واللون والعرق، هنا يتحول الإسلام إلى جغرافيا جديدة.
هذا لا يعني أبدا أن المسلم الأميركي أو الكندي أو الألماني يتخلى عن هويته الأصلية أو يتراجع اعتزازه بها أو وفاؤه لها، بل على العكس من ذلك يأخذه البعد الحضاري للإسلام باتجاه الاعتزاز بهويته الصغرى والدفاع عنها. والذين يستوعبون الدين كهوية تطرد غيرها من الهويات هم في الحقيقة يقعون في حالة من الارتباك المعنوي الذي يؤدي إلى غياب القدرة على تفسير الفرق بين الدين وبين الهوية، وبين التدين وبين المواطنة. ومن المظاهر الحضارية في الإسلام أنه لا يستلزم ممن يدخله أن يغير مكانه أو وطنه ما دام آمنا وقادرا على ممارسة ديانته دون تضييق أو صدام، وهذا هو الواقع في أكثر بلدان العالم، إذ يتحول التدين إلى قضية فردية تقوم على الحرية وتحميها القوانين التي تحفظ لكل فرد حقه في الحياة الدينية التي يريد.
لكن في العالم الإسلامي يصبح الإسلام هوية كبرى لا تهيمن على الهويات الصغرى لكنها تهذبها وتمنحها من المعاني ما يسهم في تحويل التنوع العرقي والثقافي في العالم الإسلامي إلى قوة وثراء.
في شهر رمضان الماضي كانت مكة المكرمة على موعد مع مؤتمر القمة الإسلامية. كانت القيم العليا للمؤتمر تتمثل في المكان الذي تتشرف المملكة بخدمته والذي يتشرف كل العالم الإسلامي به كعاصمة للحضارة الإسلامية التي بدأت من هناك لتصل إلى حيث لا حدود ولا تفرقة ولا تمايز. كانت تلك القمة تفعيلا حقيقيا لما تعنيه مكة المكرمة برمزيتها من كونها الرابط الحضاري الذي يسمو فوق الخلافات ويمثل عامل وحدة لكل تلك الثقافات والألسن المختلفة.
كذلك هو الحج، فكرة وقيمة ومنظومة من المعاني التي تجمع كل ذلك الحشد الإسلامي سنويا، في مكان واحد وفي زمان واحد في تفعيل شعبي واسع لقيم الإسلام حضارة وتنوعا. ذلك التنوع الذي ما زالت بعض الدوائر الفقهية في العالم الإسلامي بحاجة لاستيعابه، والعمل بمقتضاه.
التعليقات