سليمان جودة

جاء وقت على الدكتور مصطفى الفقي، كان فيه رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان المصري، وقد رشحه الرئيس السابق مبارك، وكان ذلك قبل ثورة يناير 2011 طبعا، للقيام بمهمة بروتوكولية في إسرائيل، لولا أن الدكتور الفقي قد حسبها جيدا فيما يبدو، وأحس بأن خسائر رحلة كهذه، بالنسبة لرجل كاتب ومفكر مثله، سوف تكون أكبر من مكاسبه بكثير، فرفضها على الفور، وكان لا بد من البحث عن طريقة يرفض بها المهمة التي أراد له نظام الحكم السابق أن ينهض بها، دون أن يؤدي رفضه إلى جلب الشر عليه!

ولم يكن أمامه من خيار، إلا أن يتمارض، ثم يقال للرأي العام إنه دخل المستشفى، وإن ذلك قد حال دون ذهابه إلى تل أبيب!

وبطبيعة الحال، فإن ما قيل للناس في وسائل الإعلام، هو أن الرجل مريض، لا متمارض، وقد كانت الحقيقة، كما تبين لاحقا، وكما كان واضحا في حينه، أن الحكاية تمارض، لا مرض، وأن الموضوع باختصار، أن الدكتور مصطفى لا يرغب في القيام بمهمة من هذا النوع، لأنه كان يدرك، وكان إدراكه في محله بالطبع، أن الاقتراب من إسرائيل، في حالة كحالته، سوف ينال منه، ولن يضيف إليه في كل الأحوال، وكان مرجع ذلك عنده، وعند غيره بالضرورة، أن الدولة العبرية لا تزال تتصرف بعجرفة تجاه الحق الفلسطيني، ولا تزال نواياها للفلسطينيين خصوصا، وللعرب إجمالا، تنطوي على كل سوء، ولو تكلمت بعكس ذلك!

وقد تكررت مسألة الدكتور مصطفى قبل ثلاثة أسابيع، بشكل أو بآخر، مع السفير الأردني وليد عبيدات، عندما رشحته بلاده سفيرا لها لدى إسرائيل، وكان الطريف أن laquo;عبيداتraquo; لم يكن هو الذي رفض هذه المرة، القيام بمهمة أو كلتها بلاده إليه، شأن ما حدث مع السفير الفقي من قبل، وإنما كانت العشيرة التي ينتمي إليها الرجل، في الأردن، هي التي رفضت، وأعلنت ذلك على الملأ، وبلغ رفضها إلى حد أنها عرضت على ابنها مكافأة تتمثل في شيئين، الأول: إعطاؤه 5 ملايين دينار أردني، على سبيل تعويضه، إذا هو رفض، والثاني أنها سوف ترشحه على رأس قوائمها، في انتخابات البرلمان المقبل، وهو ما لم يحدث في النهاية، لأن الصحف التي نشرت خبر الإغراءات المقدمة من جانب عشيرة laquo;عبيداتraquo; له، هي ذاتها التي عادت ونشرت بعدها بأيام، خبر امتثاله لما جاءه من حكومته، باعتبار أن ما جاءه مهمة وطنية في الأول وفي الآخر، وبصرف النظر عن رأي الآخرين في القضية كلها.

فما معنى هذا كله؟!.. معناه أن حالة السلام الرسمي، بين إسرائيل من ناحية، وبين مصر والأردن من ناحية أخرى، لم تفلح بعد، في تبديد الظنون التي تنتاب كل الذين يكون عليهم في البلدين أن يتعاملوا، على أي صورة، مع الحكومة الإسرائيلية على هذا المستوى.

وليس هناك شك، في أن القصتين معا، قصة السفير الفقي، والسفير عبيدات، تصلحان معا، لأن نتطلع من خلالهما إلى ما ثار مؤخرا، من صخب هائل، حول الخطاب الذي اعتمد به الرئيس محمد مرسي، سفير القاهرة الجديد في تل أبيب، عاطف سالم.. إذ كان المستهجن ولا يزال، أن يخاطب الدكتور مرسي، شيمعون بيريس، رئيس إسرائيل، في الخطاب، متمنيا لبلاده laquo;السعادة ورغد العيشraquo; ثم يضع توقيعه في نهاية الخطاب هكذا: صديقكم الوفي.. محمد مرسي!

وقد قيل في مجال الرد على ما أثير، إن صيغة خطابات اعتماد السفراء، واحدة، وإنها هي نفسها التي يجري إرسال أي سفير بها، إلى أي بلد في العالم، وهو ما أعتقد أنه صحيح، لأنه ليس من المتصور أن ترسل الخارجية المصرية سفراءها إلى 193 دولة في العالم، بصيغ مختلفة، من دولة لأخرى، ومع ذلك، فإن صورة الخطاب الذي تلقفته الصحف وراحت تنشره على أوسع نطاق، عليها توقيعان بخلاف توقيع الرئيس مرسي: الأول لمحمد كامل عمرو، وزير الخارجية المصري، وهو سفير في الأصل، قبل أن يكون وزيرا، والثاني لمحمد رفاعة الطهطاوي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وهو الآخر سفير، قبل أن يكون رئيسا للديوان، فكيف، إذن ، فات عليهما أن صيغة كهذه، ليست ملائمة، في ظروفنا الحالية، حتى ولو كانت صيغة مستقرة، ومتوارثة، وثابتة؟!

فلم يكن من المتوقع، والحال كذلك، أن تحتج إسرائيل، فيما لو تم تغيير صيغة خطاب السفير، من صيغة تشتمل على حميمية لا نظن أنها موجودة بين الرئيسين، بهذا الحد، إلى عبارات أخرى أكثر هدوءا، واتزانا، وتعقلا، وتعبيرا عن الواقع.

الشيء المؤسف، أن نص الخطاب لم يتم تسريبه من الخارجية المصرية، ولا من رئاسة الجمهورية المصرية، ولا من جانب أي طرف مصري، وإنما جرى ترويجه عن قصد، من ناحية الطرف الإسرائيلي ذاته، وكان الهدف الواضح، هو إحراج الرئيس، بين مواطنيه، وإحراج جماعة الإخوان التي ينتمي إليها الرئيس مرسي في الأصل، وهي جماعة لا تخفي عداءها المقيم لتل أبيب، إلى أن تقر بالحقوق الفلسطينية كاملة.

وعندما تتأمل السياق على بعضه يتبين لك، كيف أن هؤلاء الإسرائيليين قد قرروا أن يسيئوا إلى الرئيس المصري، لا لشيء، إلا لأنه كان حسن النية معهم، ولم يقع له في خاطر، أن يستغلوا هم صيغة الخطاب على هذا النحو البشع!

العقل يقول إن صيغة الخطاب الدبلوماسي ليست هي الحاكمة بين البلدين، ولا بين أي بلدين آخرين، فهي في الآخر مجرد كلام، مهما كان شكله الظاهر، ومهما كانت صياغته، لأن الشيء الحاكم فعلا، هو نوع ومضمون العلاقة التي تقوم على الأرض، بعيدا عن هذه البروتوكولات، التي هي أمور شكلية مجردة.

غير أن الدرس الباقي في الأمر كله، أن حذر الدكتور الفقي، فيما يتضح لنا الآن، كان في محله، كما أن إغواءات عشيرة laquo;عبيداتraquo; لابنها السفير، كانت في موضعها، وكان لها ما يبررها، وكيف أنها رأت مسبقا أن ذهاب واحد من أبنائها إلى إسرائيل يمكن أن يكون على حسابها، كعشيرة تعرف الأصول والتقاليد، لا لحسابها.

فهل كان الدكتور مرسي، والسفيران محمد كامل عمرو، والطهطاوي، على خطأ، حين لم يأخذوا حذرهم، كما يجب، وحين مرروا خطابا مُصمتا هكذا، ولم يتصوروا أن يكون الذي سوف يستقبله على هذه الدرجة من الرغبة في الاصطياد، أو بمعنى أدق: التصيد؟!.. ربما.. ولكن المؤكد، أن الدكتور مرسي، كشخص، لا كرئيس، لا يحمل لهم هذه المشاعر الدافئة، التي وردت في الخطاب، فهي مشاعر ورقية مجردة!