رضوان السيد

عندما قُتل اللواء وسام الحسن عشية عيد الأضحى بحي الأشرفية في بيروت، بسيارة مفخخة، ثار المسلمون وثارت قوى 14 آذار لعودة الاغتيالات لهذا الفريق. وقد جرت تظاهُرات ثم صدرت وثيقة تدعو لاستقالة الحكومة ورئيسها. وأهم الأسباب المذكورة لهذه المطالبة: سيطرة quot;حزب اللهquot; على الحكومة القائمة وعلى الأجهزة الأمنية، وانحلال المؤسسات وتآكُلها، وانهيار جهاز العدالة والقضاء، والتبعية للنظامين السوري والإيراني. وقالت قوى 14 آذار إنها ستستمر في التظاهرات والاعتصامات ومقاطعة الحكومة ومجلس النواب إلى أن تستقيل الحكومة، ويجري التفاوُض على حكومة حيادية إنقاذية تجري الانتخابات في الربيع القادم، وتصون ما تبقى من الدولة والمؤسسات.
لقد كان الطريف وغير الظريف أن الغربيين جميعاً وعلى رأسهم الأميركيون وقفوا بقوة مع ميقاتي شخصياً، وطالبوا ببقائه مع حكومته من أجل الأمن والاستقرار، وتجنب الفراغ! وأجابهم السياسيون المعارضون: إن ما نحن فيه بالذات هو الفراغ واستيلاء quot;حزب اللهquot;، وكيف تزعمون أن الحزب تنظيم إرهابي، ثم تقرون سيطرته على الحكومة والدولة؟! إن مصالحنا الوطنية وإدراكنا لها مختلف تماماً عن مصالحكم وإدراككم، فلا اعتبار لدينا لهذه الدعاوى الدونكيشوتية بحرصكم على الاستقرار القائم على الاغتيالات ونهب المال العام!

إن الأزمة لاتزال مستمرة. ولا يزال أعضاء الحكومة وحلفاؤها (وعلى رأسهم جنبلاط) يدافعون عنها، ويدعمهم السفراء والموفدون الأوروبيون والأميركيون. أما إعلام quot;حزب اللهquot; فهو quot;شمتانquot; براديكاليات 14 آذار التي لا يؤيدهم فيها أصدقاؤهم الغربيون، فما هو السر في هذا الدعم الغربي القوي لميقاتي ولحكومة الحزب؟

إن علينا لكي نفهم خلفيات ذلك، العودة إلى العامين 2009 و2010، حين كان الأميركيون في أوائل أيام أوباما منهمكين في أمرين: تأمين انسحاب الجيش الأميركي من العراق بدون خسائر، وحفظ أمن إسرائيل بحيث يمر العامان 2010 و2011 بدون حروب تضطر الجيش الأميركي للبقاء. ووجد الأميركيون ومفاوضهم فيلتمان، الذي كان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وصار منذ شهور نائباً لأمين عام الأمم المتحدة، أن خير وسيلة لتحقيق الهدفين هي الاتفاق مع إيران. وهكذا وفي عام 2010، وبعد توقيع الاتفاق على الانسحاب من العراق مع حكومة المالكي، جرى الاتفاق مع إيران على التالي: يبقى المالكي رئيساً للوزراء بالعراق رغم أنه لم يحصل على الأكثرية في انتخابات 2009. وترضى الولايات المتحدة عن الأسد وتُعيد سفيرها إلى دمشق، والذي كانت إدارة بوش قد سحبته. وتضمن إيران عدم تحرش quot;حزب اللهquot; بإسرائيل. ومع أنه ما كان منصوصاً على تولي quot;حزب اللهquot; للسلطة في لبنان؛ فإن الأسد ونصر الله قررا الانقلاب على حكومة الحريري، والمجيء بميقاتي رئيساً لحكومة الحزب، لأن فيلتمان وجنبلاط ورجالات المصارف يفضلونه على عمر كرامي الذي فكر فيه نصر الله في الأصل.

ومنذ ذلك الحين جرت في النهر مياه كثيرة. فمن جهة شَرْعَنَ ميقاتي استيلاء الحزب وعون على كل شيء. وصارت الأجهزة الأمنية- باستثناء قيادة قوى الأمن الداخلي- تعمل بإمرة quot;حزب اللهquot;، وتتعاون مع النظام السوري في زعزعة الاستقرار بطرابلس وعلى الحدود مع سوريا بشمال لبنان. ومنح ميقاتي حلفاءه في الحكومة خلال عام ونصف العام 22 مليار دولار من الميزانية المفلسة، وقدم مشروعاً لقانون الانتخابات يُسوِّد quot;حزب اللهquot; و عون في كل لبنان. وما جرى خارج لبنان كان أفظع: فقد اضطرب الأمر على المالكي بالعراق لهجومه على السنة والأكراد، وقامت الثورة السورية فأسقطت الأسد من توازنات المنطقة. ويبدو أن quot;حزب اللهquot; الذي يقاتل مع الأسد بسوريا منذ عام، شعر أن الأسد يوشك أن يفقد السلطة، فقرر هو وحلفاؤه تشديد القبضة على لبنان للمرحلة القادمة، وجرى اغتيال اللواء وسام الحسن الذي كشف قبل فترة قصيرة شبكة سوريةً للتفجير بلبنان يقودها الوزير السابق ميشال سماحة.

انسحب الأميركيون من العراق إذن بدون خسائر. وانصرف المالكي إلى العمل لإيران، وعقد أخيراً صفقة تسلح مع روسيا. ولا يكاد يبقى من بشار شيء، فلماذا يعتقد فيلتمان أن ميقاتي وحكومته لا يزالان ضروريين؟ الأوروبيون الذين تحدثنا إليهم يخافون أن يتحرش quot;الحزبquot; إنْ غضب بالونيفيل في جنوب لبنان. فيلتمان يخشى على أمن إسرائيل من الحزب. وسابقاً تحرّش الحزب مراراً بإسرائيل تحرشات خفيفة على سبيل الإنذار، لكن فيلتمان الذي يقدم أمن إسرائيل على كل اعتبار، يريد أن تبقى حكومة ميقاتي لحراسة أمن إسرائيل عبر إعطاء الحزب كل شيء لحين إجراء الانتخابات الأميركية الرئاسية، والانتخابات الإسرائيلية البرلمانية، والتأمل بمصائر سوريا! ولا تثنيه عن ذلك أفاعيل المالكي حليفهم السابق بالعراق، وأفاعيل خصمهم السابق الأسد في سوريا، والتي لا مثيل لها ولا شبيه!

ما الذي يمكن فعلُهُ بدون انتظار لهُوامات فيلتمان، وهواجس الأوروبيين؟ ترى قيادات 14 آذار، وبخاصة quot;تيار المستقبلquot; وquot;القوات اللبنانيةquot;، أنه لابد من استمرار الضغط على الحكومة ورئيسها بالتظاهرات والاعتصامات وصولا للعصيان المدني العام، للحيلولة دون استمرار الاغتيالات ودون إقرار قانون للانتخابات يقود البلاد إلى الهاوية.

ما جاء ميقاتي على رأس هذه الحكومة ساهياً أو غافلاً أو طَموحاً فقط. فقد قيل له إنه إن استطاع تحطيم آل الحريري فسيكون زعيماً أوحد للسنّة خلال الأعوام القادمة. وهو سادر مع الحزب وعون على هواهُما في كل شيء، ويذهب إلى أوروبا فيطمئنهم إلى صَون مصالحهم وحماية جنودهم وأمن إسرائيل. وإذا قيل إن الحزب يملك استراتيجية إقليمية ولا تستطيع أن تضمنه، قال لهم: إن الحزب لن يتحرك حقاً إلا إذا شنت إسرائيل حرباً على إيران. وإذا قيل له: لكنك حليف الأسد أو كنتَ كذلك، والأسد آيل للسقوط، فلماذا السماح باستباحة الدولة والمؤسسات، والسكوت على إثارة الاضطرابات في طرابلس وشمال لبنان؟ يجيب: أن quot;الزعرانquot; في كل مكان، وليس في الجانب السوري وquot;حزب اللهquot; فقط، ونحن نحاول النأي بأنفسنا عن الأزمة السورية وتداعياتها! وإذا قيل له: لكن الحزب يقاتل في سوريا وأنت لا تستنكر، يجيب: أنّ رئيس الجمهورية استنكر، وما استطاعت الأجهزة والجيش رؤية تحرك من جانب الحزب باتجاه سوريا! وإذا قيل له: لكن الأمين العام للحزب اعترف بذلك، وما سمعنا شيئاً من جانبك أو من جانب وزير الخارجية؟ يجيب: بل نحن نتحدث معهم سراً، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولولا صبرنا وحكمتنا لكانت الأمور أفظع بكثير!

عندما اغتيل اللواء الحسن، أظهر ميقاتي انزعاجاً شديداً، وقال إنه يشعر بأن الطائفة السنية مستهدفة، وأن لاغتيال الحسن علاقةً بكشفه لشبكة سماحة، وأنه وضع استقالته بتصرف رئيس الجمهورية. ثم تبين أنه لم يفعل شيئاً من ذلك، وأنه باق في القصر إلى ما لا نهاية! وهكذا فإن الرجل إما أنه مُصر على السير في المؤامرة السلطوية للأمل بالمستقبل حتى بعد بشار، وإما أنه صار رهينةً بأيدي الذين أتوا به، خاصة الأسد ونصر الله، وصديقاه لارسن وفيلتمان كفيلان بالتستر عليه أمام الأميركيين والأوروبيين الذين لا يأبهون لغير أمن قواتهم بالجنوب وأمن إسرائيل.