محمد السماك

تنبأ عالِم الاجتماع السياسي الأميركي صموئيل هتنجتون -صاحب نظرية صراع الحضارات- بتحول الولايات المتحدة إلى ساحة للصراع الحضاري بين مكوناتها الدينية والعنصرية. وقبل وفاته بأقل من عام نشر كتاباً حول هذا الموضوع، ليتكامل مع كتابه الأول حول laquo;صراع الحضاراتraquo; في العالم.

ولعل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة كشفت النقاب عن صحة توقعات هتنجتون. فالأميركيون البيض صوتوا بأكثرية 59 في المئة لمصلحة مرشح الحزب الجمهوري رومني، مقابل 39 في المئة منهم فقط صوتوا لمصلحة أوباما.

والأميركيون السود المتحدرون من أصول أفريقية، صوتوا لمصلحة أوباما بأكثرية وصلت إلى 93 في المئة، مقابل 6 في المئة فقط منحوا أصواتهم للمرشح رومني. وتشير هذه الأرقام إلى عمق الانقسام العنصري في المجتمع الأميركي.

وقد أظهرت الانتخابات الرئاسية أيضاً أن هذا الانقسام العنصري يمتد إلى المتحدرين من أصول أميركية- لاتينية. أي السمر أصحاب اللون الداكن. فقد صوّت 27 في المئة منهم فقط لمصلحة المرشح رومني مقابل 71 في المئة صوتوا لمصلحة أوباما. أي بمعدل واحد إلى ثلاثة لمصلحة أوباما.

وتعني هذه الأرقام، عنصرياً، أن الأكثرية الساحقة من السود والملونين وقفت إلى جانب أوباما laquo;الأسودraquo; وعارضت المرشح laquo;الأبيضraquo; رومني.

أما على المستوى الديني، فإن الأميركيين البيض ينتمون في أكثريتهم الساحقة إلى الكنائس الإنجيلية. وكانوا يشكلون الأكثرية الساحقة من سكان الولايات المتحدة حتى منتصف القرن العشرين. ثم بدأت نسبتهم في التراجع أمام تضخم أعداد المهاجرين الذين يتبعون كنائس أخرى. وقد لا يطول الوقت حتى يصبح البيض أقلية بين مجموعة من الأقليات التي يتشكل منها المجتمع الأميركي المتعدد والغني بتعدده.

في عام 2008 عندما تمكن أوباما الأفريقي، وهو ابن رجل مسلم (حسين) والذي قضى سنوات طفولته في مدارس إسلامية في إندونيسيا، من اختراق جدار الوهم العنصري في الولايات المتحدة، ووصل إلى البيت الأبيض، تذكر الملايين من الأميركيين السود كيف كانوا يُمنعون من ركوب حافلات البيض أو دخول مدارسهم، أو حتى كنائسهم.

ومنذ انتخاب الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت، لم يعد انتخاب أي رئيس أميركي لدورة ثانية والبلاد تعاني من هذا الارتفاع الحاد في نسبة البطالة نتيجة للأزمة الاقتصادية. صحيح أن أوباما ليس مسؤولاً عنها، ولكنه لم يتمكن من معالجتها طوال السنوات الأربع من رئاسته الأولى. ومع ذلك فقد أعيد انتخابه. وكل ما حققه أوباما هو سحب القوات الأميركية من العراق، وتمرير قانون الضمان الصحي.

ويستجيب تحقيق هذين الأمرين المهمين لمطالب المواطن الأميركي الذي تعب من الحروب الخارجية وأرهقته تكاليفها. ثم إن الدراسات الرسمية تؤكد أن 47 في المئة من الأميركيين يعجزون عن تحمّل نفقات الضمان الصحي. ولذلك وعلى رغم أن الحزب الجمهوري أنفق 800 مليون دولار لإسقاط أوباما، فإن الرئيس الأسود عاد إلى البيت الأبيض! ومن بين الذين ساهموا في تسديد هذه النفقات المرتفعة ممولون يهود أمثال شيلدون أولسون ومنظمة التحالف اليهودي ولجنة الطوارئ اليهودية أيضاً، إضافة إلى منظمة quot;إيباكquot; أمّ المنظمات اليهودية. ومع ذلك فقد صوّت إلى جانب أوباما 70 في المئة من اليهود (مقابل 74 في المئة حصل عليها في انتخابات 2008).

لقد خيب يهود أميركا آمال رئيس حكومة إسرائيل نتنياهو، ليس حباً في أوباما، ولكن تعلقاً ببرنامجه الإصلاحي الاجتماعي والصحي.

ومن هنا، وبعد إعادة انتخاب أوباما لفترة رئاسية جديدة، فإن الملايين من الأميركيين البيض بدأوا يعيدون النظر في مفهومهم لواقعهم ولدورهم وتالياً لمستقبلهم.

لقد كانت الولايات المتحدة في قبضة laquo;الواسبraquo; WASP (وهي الأحرف الأولى من كلمات البيض الأنجلو- ساكسون البروتستانت) White Anglo-Saxon Protestants، أما الآن فقد أصبحت الكنيسة الكاثوليكية من كبريات الكنائس في الولايات المتحدة، على رغم حملات التشويه التي تعرضت لها على خلفية الاعتداء الجنسي على الأطفال، التي اتهم فيها عدد من القساوسة. فمعظم الهيسبانيك (المهاجرون من أميركا اللاتينية) يعتنقون الكاثوليكية، الأمر الذي أدى إلى تضخم عددهم في الولايات المتحدة.

ولم يقف إلى جانب أوباما السود والهيسبانيك فقط، ولكن وقفت إلى جانبه نسبة عالية من الأميركيين المتحدرين من أصول آسيوية أيضاً. وبذلك تكون الأقليات العرقية الأميركية قد صبّت أصواتها في صناديق أوباما. وهي تشكل الآن 28 في المئة من مجموع الأصوات (بينما كانت في انتخابات 2008 تشكل 26 في المئة فقط).

والسؤال الآن هو: هل تنعكس هذه المتغيرات على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أم أن آثارها ستبقى محصورة في الداخل الأميركي؟

لاشك في أن الهموم الداخلية كثيرة ومعقدة. وتتصدرها مشكلة البطالة والأزمة الاقتصادية. ومن مظاهرها أيضاً مساهمة الدولة في تكاليف التعليم، والضمان الصحي، والعديد من القضايا الاجتماعية التي تمزق الاجتماع الأميركي بما فيها الإجهاض. ذلك أن ثمة علامات استفهام ترتفع حول ما إذا كان الإجهاض حقاً أو جريمة قتل، وحول ما إذا كان لمثليي الجنس الحق في الزواج والعمل في الجيش وأجهزة الأمن... الخ. ولكن انحسار تأثير laquo;الواسبraquo; سياسياً واجتماعياً لابد أن يؤثر ليس فقط على كيفية التعامل مع هذه القضايا الداخلية، ولكن لابد أيضاً أن يؤثر على السياسة الخارجية كذلك.

فمن بين الكنائس الإنجيلية الأميركية من يتعاطف مع القضية الفلسطينية مثل الكنيسة المشيخية مثلاً، التي سحبت استثماراتها المالية من إسرائيل احتجاجاً على انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني وبناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكنيسة المسيح المتحدة مثل آخر، التي وجهت مذكرة إلى الكونجرس الأميركي تحتج فيها على استعمال إسرائيل للسلاح الأميركي الذي يُمنح لها في الاعتداء على الأبرياء الفلسطينيين واستخدام أموال المساعدات المالية لبناء جدار الفصل العنصري... بما يخالف الدستور والقوانين الأميركية العامة.

إلا أن من بين هذه الكنائس من يدعم إسرائيل بلا حساب بل ويحرضها على احتلال كل الضفة الغربية وتهويد القدس، وتدمير المسجد الأقصى لبناء هيكل يهودي على أنقاضه، مثل الكنيسة الصهيونية المسيحانية. وهي حركة تؤمن بالعودة الثانية للمسيح وبأن لهذه العودة شروطاً لابد من توافرها، وفي مقدمتها قيام صهيون وتهويد القدس وبناء الهيكل. وتعتبر هذه الحركة أن خطوات إسرائيل في تنفيذ هذا البرنامج بطيئة جداً مما يؤخر بنظرها عودة المسيح المنتظر!

لقد لعبت هذه الحركة الكنسية دوراً مهماً في إدارات رؤساء أميركيين سابقين منهم ريجان وجورج بوش الابن. وكانت واحدة من القوى التي حرضت على غزو العراق. كما أنها المصدر الأساس لتمويل بناء المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتحريض على عمليات اقتحام المسجد الأقصى ومحاولات تهديمه.

إن انتكاس هذه الحركة سياسياً في الداخل الأميركي يمكن أن يقلل من تأثيرها في صناعة القرار الأميركي الخارجي، ويمكن أن يشكل هذا التغيير ومضة أمل في أن يكون أوباما الثاني أكثر جرأة على ترجمة أفكاره ووعوده من أوباما الأول.

لا يحتاج أوباما لزيارة القاهرة وإلقاء خطاب جديد في جامعتها. يكفي أن يبادر إلى تنفيذ ما تعهد به في خطابه قبل أربع سنوات ليترجم عملياً نتائج إعادة انتخابه!.

فهل تسمح له المتغيرات الداخلية بأن يكون نفسه؟!