صبحي حديدي
استنكر الكثيرون لجوء بشار الجعفري، مندوب النظام السوري في الأمم المتحدة، إلى افتتاح كلمته في مجلس الأمن الدولي ببيت من الشاعر السوري الكبير الراحل نزار قباني؛ موحياً، ضمناً، أنّ الشعر هنا ينتصر لدمشق/ السلطة، إزاء غدر العرب والعروبة. وجهة أولى خلف الاستنكار، محقة تماماً، هي أنّ القصيدة التي اقتبس الجعفري بيتاً ختامياً منها، هي في الواقع ضدّ حكم البعث، عموماً؛ والشكوى فيها هي، على النقيض، انتصار لدمشق معاوية، وحلب أبي الطيب المتنبي، وحمص خالد بن الوليد:
يا شام، أين هما عينا معاويةٍ/ وأين من زحموا بالمنكب الشهبا
فلا خيول بني حمدان راقصةٌ/ زهواً، ولا المتنبي مالئٌ حلبا
وقبر خالد في حمصٍ نلامسه/ فيرجف القبر من زواره غضبا
وجهة أخرى تقول إنّ الشاعر، لو كان حيّاً بيننا اليوم، فلا ريب في أنه كان سيقف مع انتفاضة الشعب السوري ضدّ النظام؛ وهو الأمر المرجّح، بالطبع، لولا أنه يظلّ افتراضياً بالضرورة، لا سيما إذا استعرض المرء سلسلة خيانات المثقفين والفنانين السوريين الذين انضووا في صفّ النظام، أو تواطأوا مع جرائمه عن طريق الصمت تارة، أو الغمغمة والتأتأة طوراً. واجب تحكيم التاريخ، فضلاً عن إنصاف الحقيقة، يقتضيان التذكير بأنّ الجعفري لم يكن أوّل اللاهثين خلف قباني بغية تطويعه على نحو يخدم النظام، دون اكتراث بمقدار ما تنطوي عليه الرياضة (المفضوحة، أصلاً) من ديماغوجية فاقعة.
يُذكر، على سبيل المثال الأقرب عهداً، إصرار حنان قصاب حسن، الأمين العام لاحتفالية دمشق عاصمة ثقافية، 2008، على تخصيص سلسلة من الأنشطة التي تفرط في تكريم قباني تحديداً. ورغم أنّ صداقة قصاب حسن مع النظام لا تُقارن بولاء الجعفري له، فإنّ معظم تلك الأنشطة لم تخلُ من مسحة نفاق عالية، تبيّض صفحة النظام أقلّ ممّا تكرّم قباني أو دمشق (فعالية 'حقّ الياسمين'، في حديقة الجاحظ؛ وفعالية 'هنا ينام قلبي'، التي أُقيمت في قصر الحمراء، بغرناطة، تحت رعاية أسماء الأسد والملكة صوفيا). وللتذكير، أثار ذلك الإفراط عتباً علنياً من فايزة شاويش، أرملة سعد الله ونوس، المسرحي السوري الكبير الراحل: 'فوجئنا جميعاً بأسلوب الاحتفاء بنزار قباني مع احترامي الشديد له، إذ طوال عشرة أيام وصور نزار تملأ الصحف والمجلات واللوحات الطرقية بأحجام مختلفة'. وتساءلت: هل قدّم قباني للوطن أكثر مما قدّمه ونوس؟
والحال أنّ الراحلَيْن، في ما يتصل بالنظام، اشتركا في خصيصة واحدة على الأقلّ، هي اهتمام حافظ الأسد الشخصي (أو ادعاء الاهتمام، غنيّ عن القول) بأوضاعهما الصحية: قباني، حين توجب نقله إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت؛ ثمّ ونوس، حين اقتضى علاجه السفر إلى باريس. تلك، بالطبع، مكرمة الوطن السوري لمبدعيه الكبار، وليست منّة من الأسد، الذي لم يسدد من حرّ ماله؛ غير أنّ الكثيرين من أمثال ونوس وقباني لم يحظوا بذلك الاهتمام، لاعتبارات لا تخفى. وكما أنّ ونوس كان معارضاً للنظام على طريقته، التي قد يساجل البعض حولها في كثير أو قليل؛ فإنّ قباني كان صديق معظم الأنظمة العربية، على طريقته أيضاً، القابلة بدورها لسجال مماثل.
معروف، في المقابل، أنّ قباني لم يكن على وفاق بيّن مع نظام البعث الحاكم في سورية منذ 1963، وخاصة بعد استقالته من العمل الدبلوماسي سنة 1966، ومغادرة سورية نهائياً، إلى بيروت ثمّ لندن، قبل أن يعود إلى دمشق في كفن سنة 1998. لكنّ سيرورة مصالحة، إذا جازت تسميتها هكذا، كانت قد بدأت في عهد الأسد الأب، وتضمنت ذلك الظهور الشهير للراحل على مدرج جامعة دمشق، مطلع السبعينيات، ثمّ استقبال الأسد له في مكتبه سنة 1974. ورغم مزالق ما يمكن أن تسفر عنه من احتقان في نفوس المواطنين، سوف يسمح النظام بجنازة حرّة اخترقت شوارع دمشق الحديثة، وصولاً إلى مقبرة 'باب الصغير'، حيث سيُدفن قباني. كذلك سوف تتلقى أمانة العاصمة الضوء الأخضر بإطلاق اسم الراحل على أحد شوارع دمشق، في منطقة 'ابو رمانة' الفارهة.
صحيح أنّ هذه الملابسات متضاربة متناقضة، ولعلها اتخذت تلك السمة لأسباب منطقية تخصّ شخصية قباني نفسه، عموماً؛ ولكن هل تمنح الجعفري أي ترخيص بنبش شعر الراحل، على نحو تحريفي ديماغوجي يبلغ شأو تحويله إلى شبّيح في خدمة حرب النظام المفتوحة على الشعب السوري؟ من العبث أن يجيب المرء بالنفي، ما دام الجعفري تجاسر أكثر فحشد مع قباني، في صفّ الشبيحة ذاته، أسماء كبيرة مثل الروائي إميل زولا (صاحب وثيقة 'إني أتهم' الشهيرة، دفاعاً عن الضابط البريء ألفريد دريفوس)؛ والشاعر والروائي الألماني يوهان فولفغانج غوته (صاحب الملحمة الشعرية 'فاوست'، التي تتحدّث عن بيع الروح للشيطان).
صحيح، كذلك، أنّ حي الخالدية الحمصي، الذي ارتكب فيه النظام المجزرة الأبشع منذ مجزرة حماة 1982، إنما يستمد اسمه من خالد بن الوليد، حيث القبر الذي رآه قباني يرتجف غضباً من زوّاره. ولا عجب أنّ هذه المفارقة غابت عن الجعفري، حين حوّل الشاعر الكبير إلى 'منحبكجي' صغير، يهتف ضدّ العرب والعروبة!
- آخر تحديث :
التعليقات