يحيى الأمير

لدى المؤسسات التنموية وظائف ومهام لا بد أن تتحقق واقعا على الأرض، ولدى الممانعة مخاوف تجعلها تجد في كل فعل تنموي هزيمة وتراجعا، مما يضطر بعض المؤسسات الرسمية لتقديم كل فعاليتها وهي تتحاشى فكرة المواجهة، وهو موقف إيجابي للغاية

التصنيف لدينا في الغالب ما يكون نتيجة لكسل فكري وبحثي تحليلي واضح، فمن السهل أن أهاجم الليبراليين أو الإسلاميين تحت عنوان واحد، لكن من المجهد معرفيا أن أتعامل مع نتاج خطابهم شرحا تحليليا، إضافة إلى أن الواقع لدينا ما زال واقع حراك فكري، بقدر ما هو واقع معارك فكرية، والمعارك يطغى عليها الجانب الاندفاعي العاطفي الذي يصبح التصنيف بالنسبة له أسهل الممارسات وفي ذات الوقت أكثرها إثارة وصخبا.
وإذا اكتشفنا أن حالة الاتساع الهائل في المنابر الإعلامية البديلة ساعدت كل التيارات على أن تعبر عن ذاتها وتخوض معاركها بكل اقتدار، ندرك أن التصنيف هنا لم يعد يمثل ndash; كما كان في السابق ndash; وسيلة للإقصاء والتحييد.
تبدأ المواجهة الفكرية انطلاقا من خلاف على رسم صورة المجتمع والتأثير فيه، ومع أن كل تيار يمتلك منابره إلا أن قضيته لم تعد تؤثر في الجمهور والمجتمع، بقدر انشغاله بمنع تأثير غيره فيهم، وهي إحدى لحظات المواجهة بينما المنطق الثقافي يتعامل مع ذلك على أنه نوع من التعدد والثراء الذي تؤدي تجاذباته ومعاركه لترسيخ فكرة الطيف الثقافي والاجتماعي.
لا تكتفي المعارك الفكرية بإبداء الرأي وحصر المواجهة في حيزها الثقافي، لأن ثمة رهانا على توجه المؤسسات الرسمية فبينما يسعى التيار المحافظ الممانع لترسيخها كمؤسسات محافظة مؤمنة بما يدعو إليه، يسعى الطرف التنويري والتحديثي لترسيخها وتقديمها كمؤسسات تنموية حديثة في دولة مدنية.
هذا الاشتباك حول صورة المؤسسات الرسمية كالتعليم والإعلام والقضاء والعدل والجامعات والعمل والأمن أوقع تلك المؤسسات في موقع حساس للغاية من جانب تلك المعارك الفكرية، فكل مؤسسة في الدولة هي مؤسسة مدنية قطعا، وتنموية قطعا، والمدني والتنموي من أبرز شروطه أن يكون مستقبليا غير مفرط في الممانعة مؤمن بمساحة معقولة من القوانين والخيارات، ولذلك خرجت معركة المحافظين من مواجهة الأفكار إلى مواجهة المؤسسات، لأن قضايا كتطوير التعليم وعمل المرأة وتطور القضاء واتساع مشروع الابتعاث والسياحة والنماء الاقتصادي وحقوق المرأة لم تعد مجرد قضايا فكرية بل أصبحت واقعا ملحا ومتحققا على الأرض، ولذا تتجه قوى الممانعة من معركتها مع الأفكار إلى معركة حقيقية في الميدان تشهد على ذلك حوادث الاحتساب، ذلك الهجوم ليس كما تمارسه الصحافة في نقدها لأوجه القصور في عملية التنمية، لكنه هجوم يحمل الكثير من التخوين والاتهام بالخذلان وخيانة الأمانة والبعد عن المنهج الصحيح.
أصبح الكتاب تيارا، والصحافة تيارا وكل الأفكار ذات البعد التنموي والمدني مجرد عناوين لتيار يدعو إلى الانفتاح والتغريب ndash; كل هذه التسميات جزء من المعركة ndash; هذا جيد ورأي يقبل النقاش والجدال الفكري، لكن مشكلة الممانعة هي أنها جعلت صدامها مع المؤسسات حتميا وواقعيا أيضا، وهنا تجد المؤسسات أنها مضطرة لاتخاذ موقف.
نتذكر جميعا في فترة التسعينات الميلادية وحين نشبت معارك الحداثة الأدبية لم تتدخل الجهات الرسمية على الأغلب، لسبب يسير أن كل تلك المعارك كانت فكرية أدبية ثقافية خالصة، تدور داخل دوائر لا تمس حركة المجتمع ولا تنميته، بينما الواقع الآن مختلف للغاية.
لدى المؤسسات التنموية وظائف ومهام لا بد أن تتحقق واقعا على الأرض، ولدى الممانعة مخاوف تجعلها تجد في كل فعل تنموي هزيمة وتراجعا، مما يضطر بعض المؤسسات الرسمية لتقديم كل فعاليتها وهي تتحاشى فكرة المواجهة، وهو موقف إيجابي للغاية، فمع أن التنمية لا مساومة عليها إلا أن قبولها اجتماعيا أمر مهم أيضا، لكن هذا يفتح سؤالا آخر: هل الممانعة التي تواجه التنمية ممانعة اجتماعية، أم أنها فئوية فقط؟
من الواضح أنها ليست اجتماعية، فالذين استقبلوا مثلا الواقع الجديد لعمل المرأة وقبلوا به واقعا، أكثر من الذين عارضوه نظريا وعبر مواقع الإنترنت والكتابات، مما يعني أن قيام المؤسسات الرسمية بتحاشي المواجهة مع الممانعين رغم إيجابيته إلا أنه مؤقت.
يجيب البعض بأن هذا نوع من الخلط، فهم لا يواجهون التنمية ولا يقفون ضدها، لكن الواقع يؤكد أن التنمية مناخ عام، وليست إجراء أو قرارا مجردا والوقوف في وجه مناخات التنمية هي في حقيقة الأمر وقوف في وجه التنمية، علاوة على أن الممانعة لا تتحفظ فقط بل ترفض مشروعات بأكملها. والحرج الأبرز للمانعة أن حالة من القبول الجماهيري الحقيقي تقابل بها تلك المشروعات الجديدة على المستوى الشعبي العام.
لا يبدو أن هذا الواقع مرشح لنهاية قريبة، يصبح التعامل الأمثل في مزيد من الحريات للنقد من قبل كل تيارات الممانعة، فمن حقها، ومع الالتزام بقوانين النقد أن تبدي رأيها في كل ما تقوم به مؤسسات الدولة، تماما كما تفعل الكتابات الصحفية، والذي سيحدد مصير نجاح تلك الفعاليات التنموية من عدمه هو مدى إقبال الناس عليها، لكن واجب الدولة بأكملها يصبح حيويا وملحا حين تنزل الممانعة إلى الميدان لتواجه مؤسسات الدولة. لأنه خروج سافر من مجرد إبداء الرأي والنقد إلى فرض سلطة على الواقع، وهو ما يعني مواجهة مع الدولة والمجتمع.