عثمان ميرغني
مناظر القتل والدمار الآتية من سوريا، وصور اللاجئين الهاربين من المعارك، تصيب المرء بالحزن والإحباط، خصوصا في ظل الشلل الدولي الواضح إزاء الأزمة المستفحلة، الذي فهمه النظام السوري على أنه رخصة لتصعيد حملته العسكرية وهجومه على المدن المنتفضة غير مبالٍ بأعداد القتلى المتزايدة ولا بالدمار الهائل الذي تحدثه آلته العسكرية التي لم تُستخدم بهذه الشراسة لاستعادة الجولان المحتل من نظام يباهي بشعارات المقاومة والممانعة. وإذا كانت هذه المناظر مدعاة للغضب من تردي الحال ومن جيوش لا تُستخدم إلا ضد شعوبها ولاستباحة الدم العربي، فإن هناك أيضا ما يدعو للإحباط من الشطرنج السياسي الذي يدور على سوريا وحول أزمتها.
خذ على سبيل المثال موقف حلف laquo;الناتوraquo; بأنه لن يتدخل حتى لو صدر تفويض من الأمم المتحدة، أو الانتقادات العنيفة التي وجهتها كل من واشنطن ولندن وباريس لروسيا والصين على استخدامهما laquo;الفيتوraquo; لعرقلة صدور قرار من مجلس الأمن يتبنى مبادرة الجامعة العربية. فإذا كان laquo;الفيتوraquo; الروسي - الصيني فُسر على أنه بمثابة ضوء أخضر للنظام السوري لتصعيد حملته العسكرية على المدن والمواطنين، فإن تصريحات أمين عام حلف laquo;الناتوraquo; طمأنت أيضا النظام السوري بأنه لن يواجه أكثر من العقوبات وبيانات الشجب والإدانة، وأن التعامل معه لن يكون مثل القذافي أو على غرار الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش.
موقف أمين حلف laquo;الناتوraquo; لم يكن عزفا نشازا، بل جاء متسقا مع مواقف غالبية العواصم الغربية، وبالأخص واشنطن ولندن اللتان قادتا حملة الإدانات للأسد والعقوبات على نظامه، لكنهما استبعدتا في الوقت ذاته أي خيار عسكري، بل وعارضتا حتى فكرة تسليح المعارضة السورية على أساس أن هذا التسليح سيدفع بالمزيد من السلاح إلى ميدان المواجهة من دون أن يؤدي بالضرورة إلى إسقاط النظام الذي يملك ترسانة عسكرية هائلة تجعل ميزان القوة في مصلحته. كما حذرت هذه العواصم الغربية من احتمال انزلاق الوضع في سوريا إلى الحرب الأهلية إذا تدفقت الأسلحة إلى جماعات المعارضة التي لا يزال الغرب يقول إنها غير موحدة، وبالتالي غير قادرة على التنسيق الفاعل وضبط السلاح وطمأنة مختلف مكونات المجتمع السوري.
هذه الحجج لا تقدم حلا لمحنة السوريين الذين يواجهون بطش النظام المتزايد، بل إنها تبدو واهية عندما نسمع واشنطن تتحدث عن دعم إيران المتزايد لنظام الأسد وتقديمها المساعدة له لكي يدحر الانتفاضة التي تهدد قبضته على السلطة، أو نرى بعض التقارير التي تشير إلى إمدادات أسلحة روسية تصل إلى دمشق. فهل يستمر دعم النظام من قبل حلفائه بينما يُمنع هذا الدعم عن المعارضة ويستمر قتل المدنيين وتدمير المدن؟
الدول الغربية، وعلى وجه الخصوص أميركا وبريطانيا وفرنسا، عندما أرادت الإطاحة بنظام القذافي لم تعترض على تسليح المعارضة الليبية، بل إنها قادت عملية حلف laquo;الناتوraquo; الجوية لتدمير كتائب القذافي وتوفير الدعم والإسناد للثورة الليبية، وبالتالي تمكينها من الإطاحة بالنظام. قد يرد البعض بالقول إن الدول الغربية استندت إلى قرار مجلس الأمن بشأن ليبيا واستخدمته كغطاء لعملية laquo;الناتوraquo; الجوية، وإن قرارا كهذا بشأن سوريا لم يكن متاحا صدوره بسبب موقفي روسيا والصين واستخدامهما laquo;الفيتوraquo;. الواقع أن الحملة الغربية على موسكو وبكين هي جزء من لعبة المصالح وشد الحبل الدولية؛ لأن المواقف بين هذه الأطراف إن اختلفت في الدوافع والأهداف إلا أنها تتلاقى في رفض خيار التدخل العسكري في الأزمة السورية. واشنطن ولندن ربما لا تريدان الخيار العسكري لأنهما تراعيان مصالح إسرائيل ومخاوفها من حدوث انفلات في سوريا يؤدي إلى وضع مضطرب على حدودها. أما روسيا والصين فلأنهما تشعران بأنهما خُدعتا في القرار المتعلق بليبيا، الذي استغله الغرب كغطاء لحملته العسكرية، ولأنهما ترفضان أن تظهرا وكأنهما بلا قوة أمام الغرب على الساحة الدولية. وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن حديث موسكو عن أنها تعارض استخدام الأمم المتحدة للتدخل في الدول الأخرى وتغيير أنظمة الحكم فيها، لا يعدو كونه موقفا للخطابة السياسية؛ لأن موسكو تدخلت ولا تزال تتدخل في شؤون دول جوارها وقامت بعمليات عسكرية أو أمنية في بعض هذه الدول وعملت على الإطاحة بأنظمة فيها.
الحملة الغربية على موقفي روسيا والصين واستخدامهما laquo;الفيتوraquo; بشأن سوريا لم تخلُ من انتهازية سياسية، على أساس وضع كل مسؤولية الشلل الدولي على كاهل البلدين واعتبارهما المعرقل لحل الأزمة السورية، وبالتالي صرف الأنظار عن أن موقف العواصم الغربية يسهم أيضا في زيادة معاناة السوريين؛ لأن دمشق عندما تسمع تصريحات واضحة برفض خيار التدخل العسكري والاعتراض على تسليح المعارضة، تجد فيها ما يشجعها على تصعيد حملتها العسكرية؛ فالغرب إذا أراد التدخل لم يكن ليتوقف أمام laquo;الفيتوraquo; الروسي - الصيني مثلما فعل في أزمة يوغوسلافيا السابقة. ففي مارس (آذار) 1999 قادت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حملة عسكرية جوية استمرت ثلاثة أشهر تقريبا ضد نظام الرئيس الصربي ميلوسيفيتش من دون قرار من مجلس الأمن؛ لأن روسيا والصين أيضا كانتا تعارضان التدخل العسكري. وقتها بررت واشنطن ولندن وباريس عمليات laquo;الناتوraquo; بوصفها تدخلا إنسانيا لمنع جرائم التهجير والتطهير العرقي ضد ألبان كوسوفو، ولإجبار نظام ميلوسيفيتش على وقف عملياته العسكرية وسحب قواته من كوسوفو. ولم تتوقف عمليات laquo;الناتوraquo; إلا بعد إجبار ميلوسيفيتش على الانسحاب، وعلى الرغم من ذلك لم ينجُ من الملاحقة بتهم ارتكاب جرائم حرب، ومن المقاطعة والضغوط التي أدت إلى تجدد مظاهرات واسعة ضده أدت للإطاحة به ثم تسليمه لاحقا للمحاكمة في لاهاي؛ حيث انتهى ميتا في زنزانته قبل أن تنتهي محاكمته.
إنها لعبة المصالح والشطرنج السياسي الدولي التي يدفع الشعب السوري ثمنها اليوم بينما نظامه يرتكب المذابح، والعالم يقف مترددا في تسليح المعارضة وعاجزا عن منع القتل والدمار
سوريا: الخيار الصربي والشطرنج السياسي
مناظر القتل والدمار الآتية من سوريا، وصور اللاجئين الهاربين من المعارك، تصيب المرء بالحزن والإحباط، خصوصا في ظل الشلل الدولي الواضح إزاء الأزمة المستفحلة، الذي فهمه النظام السوري على أنه رخصة لتصعيد حملته العسكرية وهجومه على المدن المنتفضة غير مبالٍ بأعداد القتلى المتزايدة ولا بالدمار الهائل الذي تحدثه آلته العسكرية التي لم تُستخدم بهذه الشراسة لاستعادة الجولان المحتل من نظام يباهي بشعارات المقاومة والممانعة. وإذا كانت هذه المناظر مدعاة للغضب من تردي الحال ومن جيوش لا تُستخدم إلا ضد شعوبها ولاستباحة الدم العربي، فإن هناك أيضا ما يدعو للإحباط من الشطرنج السياسي الذي يدور على سوريا وحول أزمتها.
خذ على سبيل المثال موقف حلف laquo;الناتوraquo; بأنه لن يتدخل حتى لو صدر تفويض من الأمم المتحدة، أو الانتقادات العنيفة التي وجهتها كل من واشنطن ولندن وباريس لروسيا والصين على استخدامهما laquo;الفيتوraquo; لعرقلة صدور قرار من مجلس الأمن يتبنى مبادرة الجامعة العربية. فإذا كان laquo;الفيتوraquo; الروسي - الصيني فُسر على أنه بمثابة ضوء أخضر للنظام السوري لتصعيد حملته العسكرية على المدن والمواطنين، فإن تصريحات أمين عام حلف laquo;الناتوraquo; طمأنت أيضا النظام السوري بأنه لن يواجه أكثر من العقوبات وبيانات الشجب والإدانة، وأن التعامل معه لن يكون مثل القذافي أو على غرار الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش.
موقف أمين حلف laquo;الناتوraquo; لم يكن عزفا نشازا، بل جاء متسقا مع مواقف غالبية العواصم الغربية، وبالأخص واشنطن ولندن اللتان قادتا حملة الإدانات للأسد والعقوبات على نظامه، لكنهما استبعدتا في الوقت ذاته أي خيار عسكري، بل وعارضتا حتى فكرة تسليح المعارضة السورية على أساس أن هذا التسليح سيدفع بالمزيد من السلاح إلى ميدان المواجهة من دون أن يؤدي بالضرورة إلى إسقاط النظام الذي يملك ترسانة عسكرية هائلة تجعل ميزان القوة في مصلحته. كما حذرت هذه العواصم الغربية من احتمال انزلاق الوضع في سوريا إلى الحرب الأهلية إذا تدفقت الأسلحة إلى جماعات المعارضة التي لا يزال الغرب يقول إنها غير موحدة، وبالتالي غير قادرة على التنسيق الفاعل وضبط السلاح وطمأنة مختلف مكونات المجتمع السوري.
هذه الحجج لا تقدم حلا لمحنة السوريين الذين يواجهون بطش النظام المتزايد، بل إنها تبدو واهية عندما نسمع واشنطن تتحدث عن دعم إيران المتزايد لنظام الأسد وتقديمها المساعدة له لكي يدحر الانتفاضة التي تهدد قبضته على السلطة، أو نرى بعض التقارير التي تشير إلى إمدادات أسلحة روسية تصل إلى دمشق. فهل يستمر دعم النظام من قبل حلفائه بينما يُمنع هذا الدعم عن المعارضة ويستمر قتل المدنيين وتدمير المدن؟
الدول الغربية، وعلى وجه الخصوص أميركا وبريطانيا وفرنسا، عندما أرادت الإطاحة بنظام القذافي لم تعترض على تسليح المعارضة الليبية، بل إنها قادت عملية حلف laquo;الناتوraquo; الجوية لتدمير كتائب القذافي وتوفير الدعم والإسناد للثورة الليبية، وبالتالي تمكينها من الإطاحة بالنظام. قد يرد البعض بالقول إن الدول الغربية استندت إلى قرار مجلس الأمن بشأن ليبيا واستخدمته كغطاء لعملية laquo;الناتوraquo; الجوية، وإن قرارا كهذا بشأن سوريا لم يكن متاحا صدوره بسبب موقفي روسيا والصين واستخدامهما laquo;الفيتوraquo;. الواقع أن الحملة الغربية على موسكو وبكين هي جزء من لعبة المصالح وشد الحبل الدولية؛ لأن المواقف بين هذه الأطراف إن اختلفت في الدوافع والأهداف إلا أنها تتلاقى في رفض خيار التدخل العسكري في الأزمة السورية. واشنطن ولندن ربما لا تريدان الخيار العسكري لأنهما تراعيان مصالح إسرائيل ومخاوفها من حدوث انفلات في سوريا يؤدي إلى وضع مضطرب على حدودها. أما روسيا والصين فلأنهما تشعران بأنهما خُدعتا في القرار المتعلق بليبيا، الذي استغله الغرب كغطاء لحملته العسكرية، ولأنهما ترفضان أن تظهرا وكأنهما بلا قوة أمام الغرب على الساحة الدولية. وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن حديث موسكو عن أنها تعارض استخدام الأمم المتحدة للتدخل في الدول الأخرى وتغيير أنظمة الحكم فيها، لا يعدو كونه موقفا للخطابة السياسية؛ لأن موسكو تدخلت ولا تزال تتدخل في شؤون دول جوارها وقامت بعمليات عسكرية أو أمنية في بعض هذه الدول وعملت على الإطاحة بأنظمة فيها.
الحملة الغربية على موقفي روسيا والصين واستخدامهما laquo;الفيتوraquo; بشأن سوريا لم تخلُ من انتهازية سياسية، على أساس وضع كل مسؤولية الشلل الدولي على كاهل البلدين واعتبارهما المعرقل لحل الأزمة السورية، وبالتالي صرف الأنظار عن أن موقف العواصم الغربية يسهم أيضا في زيادة معاناة السوريين؛ لأن دمشق عندما تسمع تصريحات واضحة برفض خيار التدخل العسكري والاعتراض على تسليح المعارضة، تجد فيها ما يشجعها على تصعيد حملتها العسكرية؛ فالغرب إذا أراد التدخل لم يكن ليتوقف أمام laquo;الفيتوraquo; الروسي - الصيني مثلما فعل في أزمة يوغوسلافيا السابقة. ففي مارس (آذار) 1999 قادت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا حملة عسكرية جوية استمرت ثلاثة أشهر تقريبا ضد نظام الرئيس الصربي ميلوسيفيتش من دون قرار من مجلس الأمن؛ لأن روسيا والصين أيضا كانتا تعارضان التدخل العسكري. وقتها بررت واشنطن ولندن وباريس عمليات laquo;الناتوraquo; بوصفها تدخلا إنسانيا لمنع جرائم التهجير والتطهير العرقي ضد ألبان كوسوفو، ولإجبار نظام ميلوسيفيتش على وقف عملياته العسكرية وسحب قواته من كوسوفو. ولم تتوقف عمليات laquo;الناتوraquo; إلا بعد إجبار ميلوسيفيتش على الانسحاب، وعلى الرغم من ذلك لم ينجُ من الملاحقة بتهم ارتكاب جرائم حرب، ومن المقاطعة والضغوط التي أدت إلى تجدد مظاهرات واسعة ضده أدت للإطاحة به ثم تسليمه لاحقا للمحاكمة في لاهاي؛ حيث انتهى ميتا في زنزانته قبل أن تنتهي محاكمته.
إنها لعبة المصالح والشطرنج السياسي الدولي التي يدفع الشعب السوري ثمنها اليوم بينما نظامه يرتكب المذابح، والعالم يقف مترددا في تسليح المعارضة وعاجزا عن منع القتل والدمار
التعليقات